كلمة الملكة رانيا في ملتقى التواصل الإجتماعي في دبي

10 كانون الأول 2018

بسم الله الرحمن الرحيم

أصحاب السمو، الحضور الكرام،،،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،

سعيدة بوجودي معكم في دبي التي تذهل العالم دائماً بتجاوز الواقع والقفز لبناء المستقبل. وفي دولة الإمارات، التي تميزت بين الدول بتمكينها للمواطن بالعلم والفرص؛ تجسيداً لرؤية سمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيّان ووليّ عهده سمو الشيخ محمد بن زايد.

وشكراً لسمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم على هذا الملتقى الدّولي الذي يجمع المعنيين بالتواصل الاجتماعي والمؤثرين فيه.

جلست الأسبوع الماضي وأعدت النظر إلى رحلتي عبر السوشال ميديا لأحضّر كلمتي أمامكم، مشيت في مشوار عشر سنوات من التغريدات والبلوغز والبوستس. وأحببت أن أشارككم ما تعلّمته، وما تمنّيته، خلال العقد الماضي.

إبتداءً من الآن، سآخذ 11 دقيقة من وقتكم تقريباً. وأعلم جيداً أنني في منافسة مع الكثيرين عليه –سناب شات، انستغرام، يوتيوب، واتس آب، فيسبوك، تويتر…

كبرنا ونحن نسمع "ما تضيعيش وقت"... و"الوقت أغلى من الذهب."

لكن اليوم، الوقت... أغلى من أيّ زمان مضى! في العام الماضي، وصلت قيمة الإنفاق الإعلانّي عبر الموبايل إلى مئة مليار دولار عالمياً. والسّلعة؟ وقتنا. هناك سباق على عقولنا ومنافسة على انتباهنا، سباق على سرقة الوقت من بين أيدينا... حرفيّاً.

واستذكر هنا قصة رجل مسن لم يكن يعلم كم عمره. كان يعدّ ماله باستمرار لكن ليس سنينه. حين سئل لماذا؟ قال: على عكس مالي... لن يحاول أحد أن يسرق سنيني فلماذا أحسبها!

أكيد، لم يكن لديه هاتف ذكي ولا حسابات على منصّات التّواصل الاجتماعي! فاليوم، يقدر البعض أنّ الإنسان العادي سيقضي أكثر من خمس سنوات من حياته على السوشال ميديا.

ما تفهموني غلط... فأنا من أكبر مناصري هذه المنصّات! لكن نصيحتي الأولى هي: أعطوا من وقتكم، ولا تدعو الغير يسرقه منكم ... ثمنوه واستثمروه بحرص.

لسّا مركزين معي؟

بحب أتـأكد... لأنّ دراسة من مايكروسوفت عام 2015 بينت أنّ قدرتنا على التركيز تراجعت إلى ثماني ثوان بسبب تكنولوجيا العصر، يعني أقلّ من ذاكرة السمكة!

قد يكون بعضكم قرأ هذه الإحصائيّة في مجلة تايم، أو نيو يورك تايمز، أو ذا جارديان، أو في الصحف والمنصات الإعلاميّة الكثيرة التي سارعت لنشرها.

جميعهم… أخطأوا!  فقد تبيّن بعدها بعامين أنّ الإحصائيّة لم تكن إحدى نتائج دراسة مايكروسوفت، وليس لها أيّ أساس علمي. كما أنّ الاعتقاد الشائع بأنّ للسمك ذاكرة قصيرة جداً... هذا أيضاً غير مثبت علمياً!

هناك آلاف المعلومات الخاطئة تسبح في بحر عالمنا الافتراضيّ! للأسف، الكثير منها ليست أخطاء بريئة، بل هي وسيلة لتحقيق غاية.

ومع أننا كبرنا ونحن نسمع ... "الكذب حبله قصير"...  إلّا أنّ ذلك لا ينطبق على السوشال ميديا.

أون لاين؛ الحقائق غير مغرية بما يكفي لتكون نجمة التداول والإعجاب، أو لتمارس سطوتها في العالم الافتراضيّ، رغم أنّ الوصول إليها لم يكن أسهل في يوم.

نرى مكانة الحقيقة تتراجع أمام سخونة الخطاب العاطفي والإشاعات المثيرة. فاليوم، الإشاعة أو الأخبار الملفقة باستطاعتها الدوران حول العالم حتى قبل أن ترفع الحقيقة رأسها. تخيلوا أنّ للاخبار الملفقة – أو الفيك نيوز - على منصة تويتر فرصة انتشار تتجاوز سبعين بالمئة مقارنةً بالحقيقة... وهذه إحصائيّة صحيحة من دراسة لجامعة MIT.

هل نلوم الأداة، ونعفي أنفسنا - كمستخدمين ومؤثرين - من المسؤولية؟ هل نتناسى أنّ وراء كلّ بوست.. وكلّ شير.. وكلّ لايك.. إنسان عليه مسؤولية؟

للحقيقة علينا حق...أن نجدها، وننشرها. قد لا تكون هي الأكثر جاذبيةً وألقاً، لكن ليس كلّ ما يبرق ذهباً. فلنسعى أن تكون للحقائق الكلمة الأخيرة. لذا أقدم لكم النصيحة الثانية: الحقيقة بتستاهل... أنفقوا من وقتكم الثمين في سبيلها.

هذه صورة شهيرة التقطها المصور الصحافي كيفن كارتر عام ثلاثة وتسعين، بينما كان يغطي المجاعة في السودان حينها.

سمع صوت أنين طفل أنهكه الجوع... كان يزحف تجاه مركز لتوزيع الطعام، وخلفه نسر يتربص به.

هزت هذه الصورة العالم حينها... هزت الضمائر وحركت الكثيرين للمساعدة. وعلى الرغم من نبل هدف المصور إلّا أنه تعرض لكثير من المساءلة: كيف لم تترك التصوير وتساعد الطفل. ولاموه بأنّه تصرف كنسر آخر يريد من الطفل تحقيق أهدافه.

تلك الصورة عمرها خمسة وعشرون عاماً وقد لا يعرفها الكثيرون هنا.

لكن هذه…وهذه ... وهذه...  لا يزالوا حاضرين في أذهاننا ويدمون انسانيتنا.

أعلم أنّ النظر إليها يؤلم... هي تذكير بأنّ الإنسانية تخذل الإنسان أحياناً... لكن النظر بعيداً عنها يعني أننا خذلناهم واكتفينا بسماع صرخة استغاثتهم دون استجابة.

نعم؛ الصورة تغني عن ألف كلمة، لكن الشير واللايك لا تغني عن الفعل. لنسأل أنفسنا: هل نحاول أن نغيّر الواقع المؤلم الذي يحدق بنا من خلال الصورة أم نكتفي ... بأضعف الإيمان؟

على مر السنين؛ رأينا كيف استطاع كثيرون حشد الدعم لقضايا إنسانيّة من خلال السوشال ميديا، وغيروا حياة الكثيرين. والحملات الناجحة التي قمتم بها هنا في الإمارات لإغاثة الملهوفين، هي أقرب مثال. وفي بلدي الأردن، هبّ الأردنيون – على منصّات التّواصل كما على أرض الواقع - لدعم من لجأ إلينا من إخواننا السوريين …جزاكم الله جميعاً ألف خير.

نصيحتي الثالثة، ستمر عليكم صور تحمل لكم رسالة، لا تدعوا صرخة من فيها تفوتكم. أشعروا معهم، وحين تنظر الإنسانية اليكم بعين الأمل، أنفقوا من وقتكم الثمين لأجلها...

نصيحتي الرابعة: كونوا مؤثرين ... حتى وإن كان الثمن البعض – أو الكثير - من هذه!  

كلّنا نسعى لمحبة الآخرين؛ لكنّ قيمنا تملي علينا أحياناً أن نغرد خارج السرب، حتى وإن كان على حساب شعبيتنا.

بإمكاننا الإجماع على أننا نفضل التأثير في حياة شخص واحد على الوصول الى مليون لايك. لأن الشهرة والأرقام هي دليل الانتشار، لكنّ التأثير الحقيقي يأتي بفعل ما يمليه علينا ضميرنا.

أيّاً كان مجالكم، ومهما كانت اهتماماتكم، لديكم دائماً خيار.

وفي النهاية، سأعود إلى نقطة البداية...إلى الأيام الأولى من رحلتي في السوشال ميديا...

بعد أسبوع من انطلاقتي على تويتر عام ألفين وتسعة، أجريت أول مقابلة لي عبر المنصّة، وكانت احدى الأسئلة: اختاري أربع كلمات توصلين من خلالها رسالة للعالم.

فأجبت: bring down the walls أطيحوا بالحواجز.

حينها تأمّلت - كما تأمّل كثيرون-  بأن يغير هذا الفضاء المفتوح العالم، رأيت فيه فرصةً للتواصل، ولحوار انسانيّ غير مثقل بالقطبية وغير مكبلّ بالحواجز الفكرية والأحكام المسبقة التي نعاني منها، خاصةً نحن العرب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

وعلى مستويات كثيرة، كان تفاؤلي في محله فجنينا مكتسبات هذا الفضاء. أدخلت شبكاته نور العلم إلى أقاصي الأرض، ومدّت يد الغوث والأمل ملايين الأميال لتصل محتاجيها. مكنتنا من تعليم أطفال بلا معلمين، وبيع سلع بلا أسواق، ومتابعة منتديات كهذا دون الحضور.

حققت لنا السوشال ميديا كثيراً مما تأملناه منها، لكن للأسف تمكنا نحن من نقل حواجزنا إلى هذا العالم... أصبحنا نسمع لا لنتواصل بل لنرد، ونتكتل وننعزل مع كلّ ما يشبهنا ويدعم قناعاتنا الشخصيّة.  

فطغى خطاب الكراهية والعنصرية... وزاد العالم تجزئةً وتباعدت الأقطاب أكثر. وشيئاً فشيئاً بدأت الحواجز تعلو.

حتى أنني... وفي بعض الأحيان -وأنا أعدّ من أول مناصري هذا الفضاء- تمنيت من كثرة السلبية... لو لم يكن.

فمع أننا تأملنا أن تغيّر السوشال ميديا حالنا؛ إلا أنّ الحلول يجب أن تأتي منا والتغيير يجب أن يبدأ من داخلنا.

الحضور الكرام،،،

أعلم أنني لم آتيكم بجديد أو بما لا تعرفونه، فقيمنا الإنسانيّة ثابتة. لكن في عالمنا المتسارع وفي غمرة الرسائل والتحديثات التي تنهال علينا قد يضيع تركيزنا وتنحرف بوصلتنا قليلاً؛ فيحيد نظرنا عن الدرب الذي رسمناه لأنفسنا.

لذا أتيتكم، أنتم المؤثرون وأصحاب الصوت المسموع، لأحثّكم على استغلال وقتكم في كسر الحواجز وفتح قنوات الحوار، على التأثير في الناس وحشد الدعم لمن هم في أمس الحاجة له، لتناصروا الحقيقة وتتواصلوا بالقيم، وبنفس الاهمية كونوا طيبين مع الغير فأبسط تعبير عن انسانيتنا هو الكلمة الحلوة.

آمل أن أكون قد أحسنت استثمار وقتكم … بارك الله فيكم ووفقكم في مساعيكم.