كلمة الملكة رانيا في قمة "عالم شاب واحد" - بلفاست، المملكة المتحدة

02 تشرين الأول 2023

سعيدة بوجودي هنا اليوم، وشرف عظيم أن أحتفل معكم بذكرى اتفاق الجمعة العظيمة هنا في بلفاست.

عندما أعود بالذاكرة للعام 1998، العام الذي وُقع فيه الاتفاق، استذكر الراحل جلالة الملك الحسين طيب الله ثراه والد زوجي.

كانت ملامح التعب قد اتشحت على وجهه بعد أكثر من خمسة وأربعين عاماً من القيادة في منطقة مضطربة من العالم. منطقة تحمَّل شعبها، تماماً كشعب ايرلندا الشمالية، عقوداً من سفك الدماء.

أذكر بوضوح اليوم الذي أُبرم فيه اتفاق الجمعة العظيمة... كنت برفقة جلالة الملك الراحل نتبادل الحديث خلال وجبة العشاء والتلفاز دائر في الخلفية. لا زلت أذكر السعادة على وجهه حين سمع الخبر.

قال "إذا استطاعوا تحقيق ذلك في ايرلندا الشمالية، فبالتأكيد يمكننا ذلك أيضاً".

تغلب الأمل في نفس الملك الحسين على ما شهده من عنف وخسارة في الأرواح خلال سنوات حياته.

فقد رأى وهو في عمر الخامسة عشرة، جده المحبوب يُقتل بالرصاص على أبواب المسجد الأقصى في القدس. واحدة من رصاصات القاتل أصابته أيضاً، لكنها انحرفت عندما لامست ميدالية معدنية كان يرتديها على صدره. 

لطالما تساءلت عما إذا كان ذلك هو ما جعل الملك الحسين يعيش بقية حياته بملئها – لأنه أدرك أن وقتنا على هذه الأرض محدود، خاطف ويجب ألا نستخف به أبداً.

في عام 1998، عام اتفاق الجمعة العظيمة، كان الملك الحسين يحارب السرطان. وفي ذلك الخريف، كان يخضع للعلاج الكيماوي. 

لكن عندما تمت دعوته للمساعدة في إنقاذ محادثاتٍ لاتفاق تاريخي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لم يتردد الراحل الملك الحسين. فنزع المحلول الوريدي من رسغه وترك سرير العلاج وطار إلى "واي ريفر" في ولاية ميريلاند لدعم مفاوضات طرفي الصراع.    

وعندما توصلا إلى اتفاق بعد تسعة أيام، تحدث جلالته خلال مراسم توقيع الاتفاقية.

وقال مازحاً أن الشيب قد غزى شعر المبعوث الأمريكي من عملية السلام.

ثم أضاف: "لقد فقدت كل شعري بما في ذلك حاجبي، لكن تلك هي سُنة الحياة... وعلى الرغم من ذلك وإن لم أمتلك إلا ذرة واحدة من القوة، كنت سأبذل كل ما في وسعي لأكون هنا، وأساعد قدر استطاعتي".

ذكّر مرض السرطان الملك الحسين مرة أخرى كم هو محدود وقتنا. ومرة أخرى، اختار أن يعيش حياته بملئها مستغلاً كل لحظة ممكنة لتحقيق السلام للأجيال القادمة.

أعلم أن أحد محاور هذه القمة هو السلام والمصالحة.

واليوم أريد أن أحدثكم عن ذلك من منظور الوقت: كم هو محدود... وكيف للأمل أن يتحمل اختبار الزمن... وكيف يُمكننا تعظيم الوقت باستغلاله جيداً.

وأعتقد أنكم – كنشطاء شباب – تدركون حجم الإلحاح أكثر من غيركم.

فحيثما نظرنا، نرى تنبيهات الخطر تومض حولنا. سياسات الاستقطاب. نزاعات قديمة وجديدة. أزمات لجوء. كتل جليدية تنزلق نحو البحر.

وفي نفس الوقت، لا زالت تحديات قديمة تلازمنا، حتى في بلدان العالم الأكثر ديمقراطية.

وفي وقت نتحدث فيه عن تطورات تكنولوجية مثل الذكاء الاصطناعي، من المعيب أن العديدين لا زالوا يتمسكون بالتفكير البدائي أن لون البشرة يحدد قيمة الإنسان. ومن العجيب أن المساواة الجندرية ما زالت هدفاً وليست واقعاً.

لكن إدراكنا أن مشاكلنا ملحة لا يجعلنا دائماً أكثر فعالية في حلها.  فيطغى القلق من محدودية الوقت على تفكيرنا، ونحوم حول الهوامش غير قادرين على التعمق.

أو الأسوأ من ذلك، نُنهك أنفسنا دون التقدم خطوة للأمام.

أو نستسلم.

هذا هو الحال في فلسطين بعد خمسة وعشرين عاماً من توقيع اتفاقية "واي ريفر".

يبدو وكأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أصبح للكثيرين أمراً مُجرداً. استعارة لكراهية مستعصية – مكان يُفضل العالم نسيانه.

لكن الوقت يمضي.

عدد الفلسطينيين الذين قُتلوا في هذا العام على أيدي إسرائيليين فاق أي من السنوات الخمس عشرة الماضية. وفي كل ثانية... من كل دقيقة، من كل يوم... تُسلب حرية ملايين الفلسطينيين... تُسلب حقوقهم وهويتهم... أمام أعيننا.    

أسر فلسطينية تُهجّر من أراضيها. مصلون في الأقصى يتعرضون للهجوم والوحشية. عائلات تدفن تحت أنقاض المنازل، في الوقت الذي يُسجن فيه أطفال في سن الثانية عشرة لمجرد رمي الحجارة. أمام أعيننا.

المواطنون الإسرائيليون يحتاجون السلام أيضاً. فوحشية الاحتلال تؤجج عدم الاستقرار والخوف لدى الجميع. 

سيكون هناك دائماً من يحارب السلام، لكن يتوجب على بقيتنا الدفع باتجاهه. ولا يتحقق ذلك في يوم أو قمة. فتلك مهمة لمدى الحياة.

لذلك، وأنتم تلتقون اليوم ضمن إطار قمة "عالم شاب واحد"، أريدكم أن تتذكروا الآتي: 

لتحقيق تقدم دائم أمام التحديات التي نواجهها، علينا تكريس كل ذرة من وقتنا، وليس فقط كل ذرة من قوتنا. 

أحياناً، سنشعر أن الوقت إلى جانبنا... وأحياناً أخرى سنشعر أنه يُداهمنا.

لكن الوقت يتحرك في اتجاه واحد فقط. واللحظات التي تمر لا يمكن استرجاعها. 

وبالرغم من الرياح المعاكسة القوية، يواصل جلالة الملك عبدالله السير في طريق السلام الصعب، وفي أغلب الأحيان الموحش. 

حان الوقت ليعج ذلك المسار بالآخرين. حان الوقت ليقوم القادة الإسرائيليون والفلسطينيون على حد سواء بإنصاف شعبيهما. وأن يخرج القادة في كل مكان من تقاعسهم وينهمكوا بالعمل اللازم لتحقيق السلام الدائم في الشرق الأوسط وحول العالم.

بالطبع ليس الأمر بتلك السهولة. ولن ألوم شكوكم.

فقد شهدتم أزمات مالية، وأزمات صحية عالمية، وأزمات مناخية، كل ذلك خلال سنوات نشأتكم. 

لكن كما قال الشاعر الفلسطيني محمود درويش ذات مرة: "نعاني من مرضٍ عضال اسمه الأمل". 

وكونكم في هذه القاعة، فعلى الأغلب أنتم أيضاً مصابون بعدوى الأمل.

الأمل هو خيار – قرار نتخذه، بغض النظر عن الظروف.

ورأينا في حياتنا أنه يمكن تغيير منحنى العالم الأخلاقي.

سُجن نيسلون مانديلا لسبع وعشرين عاماً... ورغم كل ذلك الوقت، بقي عازماً وصامداً لأنه اختار كل يوم أن يكون جزءاً من شيء أعظم.   

إذا قبلنا تلك الفرضية – أننا جميعاً جزء من إنسانية أكبر – فعلينا أن نمنح كل ذرة من وقتنا ليتمكن شخص آخر من الحصول على المستقبل الذي يستحقه.

صنع السلام صعب. لن تواتينا أبداً الظروف المثالية للدخول إلى قاعة المفاوضات.

لكن الخطوة الأولى في مسعانا لتحقيق أي شيء عظيم تبدأ بتواجدنا. حتى وان تطلب دخول تلك القاعة مواجهة أشرس خصومنا.

أحياناً تكون الأحقاد راسخة بعمق.

وأحيانا سندخل القاعة مثقلين بالحزن - كرئيس وزراء ايرلندا السابق، بيرتي أهيرن، الذي سافر من محادثات الجمعة العظيمة إلى جنازة والدته وعاد مرة أخرى.

لكن علينا أن نعمل بما لدينا... ودخول تلك القاعة بجميع الأحوال، لأنه لن يكون هناك وقت مثالي... لكن الوقت الراهن في متناول أيدينا الآن.

وعلينا أيضاً التمسك بالأمل عندما نخرج من قاعة المفاوضات. ففي معظم الأحيان سنغادرها مع خيبات أمل ومهام غير مكتملة على طاولة المفاوضات. مما سيتطلب منا المزيد من الوقت والصبر أيضاً.

فمثلاً، بعد توقيع اتفاق الجمعة العظيمة، تطلب تشكيل حكومة تقاسم السلطة التي حددها الاتفاق تسع سنوات أخرى من المفاوضات.

وعلى بعد خطوات قليلة من خط النهاية ذلك، كادت الأطراف أن تتعثر مرة أخرى.

فعندما جاء القائدان لإعلان الاتفاق النهائي كانت الإشكالية: هل يجلس القائدان بجانب بعضهما البعض كحليفين، أو مقابل بعضهما البعض كخصمين؟

تخيلوا: بعد كل ما مروا به، كانوا على وشك الفشل بسبب كيفية الجلوس. 

لحسن الحظ، كان لدى أحدهم فكرة: وجدوا طاولة على شكل معين، بحيث يجلس القائدان بجانب بعضهما البعض ومقابل بعضهما البعض في الوقت ذاته. 

ولم يحدث في ذلك اليوم أي تغيير جذري في المشاعر، ولا حتى مصافحة بالأيدي. لكن القائدان كانا أكثر انسجاماً من اليوم الذي سبقه. أليس ذلك شبيه بمعجزة؟

ومع ذلك، فالمعجزات لا تحدث بين ليلة وضحاها. المشاكل المعقدة تستعصي على الحلول المتسرعة. فتلك اللحظة الحاسمة على الطاولة المعينية تطلبت ما يقارب عقداً من العمل.

وبالمثل، كانت لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا نتاج عمل سنوات عديدة.

لا يمكنك تحقيق السلام بضربة قلم، تماماً كما لا يمكنك شفاء جرح رصاصة بضمادة.

والحقيقة هي: علينا أن نأخذ وقتنا حتى نحسن استغلاله.

فنقف أمام مفارقة: من أجل تحقيق السلام لا نستطيع إضاعة لحظة واحدة. ومع ذلك - وبالرغم من أن التحديات مُلحة - لا يمكن التعجل في إيجاد الحلول الدائمة.

لهذا السبب فإن استخدام كل ما أوتينا به من وقت في عصرنا هذا، يعني احتضان الوقت بجميع أبعاده. أن ننتهز اللحظة الآنية وفي نفس الوقت نمهد الطريق للمستقبل.

نعم وقتنا محدود، لكن كيفية استخدامه أمرٌ متروك لنا. عندما نحسن استخدامه نراه وكأنه يتمدد أمامنا. لكن عندما نطارد كل إلهاء جديد لا نجد ما يكفينا من الوقت فيتقلص حد العدم.

لذلك، في اللحظة الحاسمة، عليكم أن تشاركوا بكل جوارحكم. خلال المفاوضات الفعلية لاتفاق الجمعة العظيمة، لم يغادر القادة قاعة المفاوضات لمدة 58 ساعة، ثلاثة أيام تقريباً.

لم يُتابعوا الرأي العام دقيقة بدقيقة. ولم يتحققوا من هواتفهم أو قنوات التواصل الاجتماعي! لقد كانوا يسكنون الزمن بالكامل.

لكن دعوني أتحدث بصراحة، يكترث الكثير من القادة اليوم بالأمور الآنية، يهتمون بجولة الانتخابات القادمة على حساب الأجيال القادمة. ويبدو وكأن العديد منهم يميلون لنقض الاتفاقيات أكثر من التوسط لإبرامها.

ومن المفارقات أن أولئك الأكثر تضرراً من الصراعات – النساء والشباب الذين يعانون من ويلاتها بشكل يومي، غُيبوا تاريخياً عن محادثات السلام، على الرغم من امتلاكهم الحافز الأكبر لإيجاد تسويات مبتكرة يتطلبها السلام الحقيقي.

من وجهة نظري، لا نحتاج إلى المزيد من الطاولات المعينية، بل نحتاج إلى طاولات أكبر، مع عدد أكبر من الكراسي!

ولهذا أشعر بإلهام شديد لوجودي هنا.

الشباب مثلكم يدركون بالفعل قوة العمل الجماعي. والعمل الذي تقومون به كسفراء لقمة عالم "شاب واحد" هو خير دليل أن التصميم والإلحاح يمكن أن يحقق أثراً..

فكل مشروع تقومون به، بطريقة ما هو عملية سلام بحد ذاته. هو سبب لشيء من الرهبة. وهو أمل نابض لغدٍ أفضل ولمعجزة على الطريق.

وستكون هناك لحظات حين يضيء ذلك الشعور بالرهبة كل شيء، ويمدنا بالشعور بالإنجاز الذي نحتاجه للاستمرار.

وصف أحد مستشاري مفاوضات الجمعة العظيمة الساعات الأخيرة منها بأنها "سحرية".

كانوا قريبين جداً من السلام ومنهكين لدرجة أن أحدهم اصطدم بجدار – جدار فعلي وليس مجازي!

وقد نصطدم بالحائط بين الحين والآخر. وقد نشعر بالإرهاق مرات.

وفي بعض الأحيان قد نشعر أنه مهما قطعنا من مسافة، فإن كل ما نراه هو الطريق الطويل الذي لا يزال أمامنا.

لكن انظروا من حولكم وتذكروا: لن يكون أحد منكم وحيداً أبداً.

ما يربطنا جميعا أننا نسكن ذات الوقت. هذه اللحظة. وهذا هو دورنا في سباق التتابع. هناك من سبقنا وآخرون سيأتون بعدنا. لكن الآن، طالما نعيش ونتنفس، فقد عُهد إلينا بالقيادة.

وإن سخّرنا كل ذرة من وقتنا، فيمكننا تجاوز كل رياح معاكسة... وإنهاء سباقنا... وإيجاد عالم أفضل لأولئك الذين يتبعوننا.

شكراً جزيلاً.