الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان

11 كانون الأول 2003

لقد شهد العالم في السنوات القليلة الماضية العديد من التحولات والإحداث الكبيرة التي تسببت في معاناة الكثيرين من البشر، وكانت منطقة الشرق الأوسط على وجه التحديد مسرحاً دامياً لعدد من الحروب بالإضافة إلى تأجج الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، وكان نتيجة كل ذلك الآلاف إذا لم نقل مئات الآلاف من ضحايا هذه الحروب، سواء في العراق أو في فلسطين.

وفي الجهة المقابلة من هذا المشهد الكوني نجد اهتماما غير مسبوق بالدعوة إلى ترسيخ السلام والاستقرار واحترام حقوق الإنسان واشعاعة المناخات الديموقراطية، ومحاربة الفقر والجهل، والتصدي لمرض نقص المناعة المكتسبة الذي يجعل ضحاياه إما موتى أو أشخاص يعانون من التمييز ورفض الآخرين لهم بالإضافة إلى تحمل أعباء هذا المرض وتبعاته.

إن تعزيز مبدأ احترام حقوق الإنسان ليس سهلا وليس متاحا في كل زمان أو مكان، وثمة عقبات وتحديات تحول دون تعميم هذا المبدأ النبيل، لكن واجبنا كمؤمنين يرتب علينا التزاماً أخلاقياً باحترام حقوق الإنسان وصون كرامته باعتبارها محورا رئيسيا في جميع الديانات السماوية. وعندما يحتفل العالم الإسلامي بفوز شيرين عبادي بجائزة نوبل للسلام فهذه رسالة إلى العالم أجمع بان إيمان شيرين الديني لا يتناقض مع عملها في مجال الديموقراطية وحقوق الإنسان، وحين يفقد العالم أهم رموز السلام ودعاه احترام حقوق الإنسان بمقتل سيرجو فييرا دي ميلو وهو يسعى لتوفير المساعدات للشعب العراقي، وتخفيف معاناته، فإن ذلك يدعو المجتمع الإنساني كله شعوبا وحكومات وأفرادا إلى التكاتف والتعاون لاحترام حقوق الإنسان وصون كرامته، ومعالجة كل الأوضاع التي تسبب الصراع وعدم الاستقرار والتطرف والعنف في أي مكان من هذا العالم.

وهذا ما نؤمن به في الأردن حيث افتتح جلالة الملك عبدالله الثاني دورة مجلس الأمة في أوائل هذا الشهر برؤية تبشّر بمجتمع التعاون والتآلف والتسامح القائم على قاعدة صلبة من العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص واحترام حقوق الإنسان، وذلك ضمن رؤيته لمستقبل الأردن الذي ينبغي أن يكون نموذجاً للدولة العربية الإسلامية التي يمارس فيها كل فرد رجلاً كان أو امرأة اوشاباً دوره الحيوي في بناء مجتمعة من خلال تكريس قيم العدالة والمساواة والديموقراطية داخل حدود الوطن، ودعوة الآخرين إلى الاستفادة والإقتداء بتجربتنا الحضارية والإنسانية في هذا المجال.

وبالتأكيد، فإن حماية الكرامة الإنسانية وصونها كما أشار الدكتور جاكوب كيلين يبرغر رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر قبل أيام "هي هدف بسيط لكنه تحدّ هائل" فالأفراد الذين يسيئون لكرامة الآخرين يتسلحون دائما بالأعذار كغياب الأمن والنظام، والمتطرفون في أي مكان يؤمنون بان من حقهم التضحية بكرامة الآخرين وحقوقهم، من اجل تطرفهم وقضاياهم، وتبقى الحقيقة تتمثل بأن " الحق في الكرامة الإنسانية غير قابل للتفاوض".

فواجب الحكومات في الحفاظ على الأمن لا يبرر لها الاعتداء على حقوق الأفراد في الاحترام والكرامة، وليس مقبولاً من الرجال والنساء والأطفال أن يُسلّموا بضرورة التنازل عن حرياتهم أو هجرة بيوتهم أو تحمل أي نوع من المعاناة أو سوء المعاملة في سبيل حقهم في البقاء على قيد الحياة، وندرك جميعا أن واجب القانون الدولي هو التصدى لهذه القضايا، فالعقائد والفلسفات الإنسانية والاجتماعية تستمد قوتها وعظمتها من حقيقة واحدة هي أن الكرامة أساس الإنسانية وهي حق للإنسان يولد معه.

إن حماية الكرامة الإنسانية في كل مكان في هذا العالم هي مصلحة ليس لاؤلئك الذين تستباح كرامتهم و حقوقهم، وإنما هي في نفس الوقت تصب في مصلحة أولئك الذين لا يشعرون إن كرامتهم مهددة أو مستباحة. ففي عالم لم تعد الحدود فيه تمنع تدفق المعرفة والثقافة والتجارة لم يعد بإمكان أي مجتمع أن يعيش بمعزل عن غيره من المجتمعات. لكن تقدمنا على الصعيد الإنساني والثقافي لا يواكب تقدمنا العلمي والتكنولوجي، ولا بد لنا من أن ندرك أن كل التقدم المادي الذي أحرزناه في الرفاه الاجتماعي وتنامي رؤوس الأموال سيبقى مهددا مع وجود 674 مليون طفل يعيشون في فقر مدقع، و مع 24 ألف شخص يموتون يوميا من الجوع، ومع استمرار الحروب والنزاعات المسلحة والآثار المترتبة عليها في تدمير حياة الأفراد وفرض المعاناة عليهم.

وبالرغم من هذا كلها، فان بإمكاننا أن نحقق نجاحا في هذا المجال أكثر مما تم تحقيقة، وذلك بإغلاق فجوة القيم الموجودة بين الشعوب، فالأنظمة العالمية الجديدة التي غيرت حياتنا وعملنا وتواصلنا مع بعضنا بإمكانها أن تقدم لنا نظاما عالميا موحدا للأخلاق والقيم. وعولمة مفهوم الكرامة الإنسانية مهم بقدر عولمة الاتصالات والتجارة والتكنولوجيا والمعرفة.

وخير من يمثل منظومة الأخلاق العالمية هم العاملون في مجال الإغاثة والمساعدات الإنسانية. وأفضل ما يمكن أن نبدأ به هو تحقيق نقله حقيقة أخلاقية نقوم بها لدعم أولئك العاملين، والذين يعرضون حياتهم للخطر يوميا من اجل الآخرين، فمساحة العمل الإنساني التي يحتاجون إليها تتضاءل يومياً، وإذا لم نتخذ إجراءات تحد من هذا التضاؤل فإننا سندفع كمجتمع إنساني الثمن غاليا.

إن التفجيرات التي طالت مكاتب الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر في بغداد تعكس تناميا مقلقا في العنف الموجه ضد موظفي الإغاثة، وقد شهدنا اعتداءات مماثلة في الكونغو وراوندا والقوقاز وهجمات على منظمة كير العالمية في أفغانستان. بحيث أصبح معدل العنف ضد هؤلاء ضحية واحدة كل يومين. فكيف يمكن لعمال الإغاثة حماية الآخرين إذا لم نؤمن الحماية لهم أولا؟ ومن هنا فان واجب المجتمع الدولي، التدخل الفوري لتوفير الأمن والحماية ومساحة وشروط العمل الإنساني المناسبة لكي نمكن هؤلاء العاملين من القيام بعملهم على أكمل وجه. وفي هذه الحالة لا بد من احترام الحيادية والاستقلالية التي يمارس بها عمال الإغاثة عملهم الإنساني، ولا يجوز بأي شكل من الأشكال ربط المساعدات وجهود الإغاثة الإنسانية بالاعتبارات السياسية لان ذلك يهدد الهدف الأساسي منها وهو تقديم المساعدة لمن هم بحاجة إليها بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى.

والأمل كل الأمل في إيجاد مساحة إنسانية في قلوبنا تجعلنا نشعر مع الآخرين ونحس بمعاناتهم: وهذه هي المقدمة الأولى لاحترام إنسانية الإنسان وكرامته، والتعاطف مع الآخرين وتفهم معاناتهم ومد يد العون لهم يجب أن لا يكون مرتبطا بمدى توافقنا معهم وسيرهم على خطانا وتوجهاتنا.

فليكن هذا نبراسا نهتدي به ونكرسه لأبنائنا في يوم حقوق الإنسان، وكما علمنا الراحل الكبير الملك الحسين بن طلال رحمه الله بأن "من واجبنا حماية كرامة الإنسان أينما وجد، وبغض النظر عن شخصه أو معتقداته."