ترجمة كلمة جلالة الملكة رانيا في مؤتمر سيغلو المكسيك (القرن الحادي والعشرون)

05 أيلول 2025

شكراً لكم جميعاً على هذا الترحيب الدافئ. وأود أن أشكر بشكل خاص السيد كارلوس سليم على دعوتي لحضور هذا اللقاء الرائع، ولقناعته الراسخة أن العمل الخيري لا يقتصر على تخفيف المعاناة فقط بل فتح أبوابٍ أيضاً.   

وإنه لشرف حقيقي أن أكون بين هذه المجموعة الرائعة من الشباب. لقد مر وقت طويل منذ زيارتي الأخيرة للمكسيك، لكنها ما زالت كما أتذكرها مليئة بالجمال والحياة.

في عالم يبدو اليوم مضطرباً لدرجة تدفعنا للبحث عن طرق جديدة للتفكير والرؤية والفهم.

لقد شدني مؤخراً مرصد "فيرا سي. روبين" وهو تلسكوب استثنائي بُني في أعالي جبال تشيلي.

هذا التلسكوب لا يكتفي برصد النجوم فقط، بل يلتقط حركة الكون أيضاً.  يتحرك كل خمس ثوانٍ مستخدماً أكبر كاميرا رقمية في العالم ليلتقط ألف صورة في كل ليلة.  تُنتج تلك الصور مقطع فيديو متسارع للسماء الجنوبية، يكشف أنماطاً وحركات لم نعتد رؤيتها.

إن هذا التلسكوب ليس مجرد إنجاز علمي؛ بل هو تذكير بأهمية المنظور الذي نتخذه في رؤية الأمور، ليس فقط بالنظر خارج أنفسنا بل بتحديد ما نريد التركيز عليه وما نريد أن نراه أصلاً.

وهذا المنظور هو ما نحن بحاجته اليوم أكثر من أي وقت مضى.

جيلكم يدرك هذا أفضل من كثيرين. فلقد دخلتم إلى سن الرشد في لحظة مفصلية ليس في حياتكم الشخصية فقط، بل في حياة العالم كله. فالذكاء الاصطناعي وما يرافقه من تقنيات متطورة تُغير كل جانب من واقعنا بسرعة مذهلة.

فنحن نقف عند مفترق طرق بين إمكانات استثنائية ومخاطر غير مسبوقة، حيث تتحرك الأرض تحت أقدامنا بوتيرة أسرع مما يمكننا التكيف معها.

يبدو الأمر وكأننا نخطو أو لربما حتى ننزلق إلى المستقبل مباشرة.

مما يدفعنا إلى التساؤل: هل الذكاء الاصطناعي قوة من أجل الخير أم الشر؟

وهذا السؤال ليس جديداً. فعلى مر التاريخ، كل قفزة تقدم- من المطبعة إلى الثورة الصناعية، قوبلت بمزيج من التحمُس والخوف.

وكان هناك دائماً ما يُبرر القلق.

فقد نشرت المطبعة المعرفة، لكنها بثت الفرقة والدعاية المتحيزة.

وأدخلتنا الثورة الصناعية إلى الحياة الحديثة، لكنها وسّعت فجوة اللامساواة.

وحين ربط الإنترنت العالم، غذّى التضليل والانقسام.

عندما أنظر إلى الماضي، أتساءل: هل كان بإمكان البشرية أن تُحرز هذا التقدم بشكل أكثر حكمة؟ برؤية أبعد؟ بمنظور أوسع؟ تُعظّم فيه الفائدة وتُقلل من الضرر.

لأن التغيير بحد ذاته ليس خيراً أو شراً، بل هو ما نختار أن نجعل منه.

الآن، وعلى خلاف القفزات السابقة، الذكاء الاصطناعي حاضر في كل مكان، يُحوّل كل جانب من جوانب الحياة. والأسئلة التي يثيرها باتت أكثر تعقيداً وأهمية.

غالباً ما نُفتَن بالتكنولوجيا وننبهر ببريقها، فننسى أن نتوقف ونسأل: هل نريد هذا؟ هل يخدم إنسانيتنا؟

هل نحن واضحون بشأن أولوياتنا؟

اليوم، نتسابق نحو الأمام بسرعة تنسينا طرح هذه الأسئلة. نطور الأنظمة حتى لو كنا نحن وإنسانيتنا ثمن ذلك التطور. ومن ثم نسمح لهذه الأنظمة بأن تسيطر على بوصلتنا الأخلاقية.

لكن دعونا لا نخدع أنفسنا. نحن نتحدث عن الذكاء الاصطناعي وكأنه خارج عن سيطرتنا، إلا أن القرار بالكامل بأيدينا. التكنولوجيا ستشكّل المستقبل، لكننا نحن من سنشكّل هذه التكنولوجيا.

وبالمنظور الصحيح يمكننا إعادة توجيه التقدّم، ليس فقط نحو ما هو ممكن، بل نحو ما هو صائب.

لكن كيف نحدد المنظور الصحيح؟ أعتقد أن تلسكوب "روبين" يقدم لنا طريقة. كما أنه يوسّع رؤيتنا للكون المتغير باستمرار، نحن بحاجة إلى عدسة تركز على الأرض بنفس الطريقة. عدسة تجبرنا على التوقّف، والانتباه لما يلوح في الأفق.

بالنسبة لي ولكثيرين حول العالم، وليس فقط في الشرق الأوسط، تلك العدسة التي تفرض علينا رؤية الأمور بوضوح أخلاقي هي غزة!

لذا أود الاستفادة من هذه اللحظة لأتحدث بصراحة ووضوح عما نشهده في غزة، ومن ثم أتناول ما يعنيه ذلك لنا جميعاً، ولا سيما للشباب الذين هم قادة المستقبل في مجتمعاتنا.

حجم الدمار الذي نشهده في غزة كارثي. الوحشية فيه واضحة ولا يمكن إنكارها. منازل وتواريخ تسحق تحت الركام. عشرات الآلاف من الأشخاص قتلوا.  إسرائيل تجوع شعباً بأكمله تحت حصار يقطع عنه كل شرايين الحياة. أطباء منهكون من الجوع يكافحون لعلاج المصابين وسط نقص حاد في الإمدادات. وصحفيون شجعان يغطون الأحداث من الخطوط الأمامية يُقتلون دون محاسبة.

لسنا بحاجة لأقوى منظار في العالم لنرى ما يُجمع الخبراء على أنه إبادة جماعية تحدث بوضوح أمام أعيننا.

وتستوجب مواجهة وحساب.

بالنسبة لكثيرين حول العالم، تشكل غزة اليوم تحدياً لوجهات النظر السائدة والافتراضات الأساسية والمسَلَّمات. إنها تدفع الناس للتساؤل: ما الروايات التي تفرض كحقائق غير قابلة للنقاش؟ ولماذا؟ إنها تكشف كيف يمكن تحريف الحقائق وتبرير المعاناة التي لا توصف، وتجريد شعب بأكمله من إنسانيته.

ورغم ذلك، يفرض على الناس قبول هذه الأكاذيب كحقائق حتى ولو أشارت الأدلة إلى العكس.

لأنه في زمن تعمه الفوضى والتشتيت والضوضاء، يضعف حسّنا الأخلاقي ويتلاشى الخط الفاصل بين الصواب والخطأ.

لكن دعونا نكون واضحين: لا يوجد عالم يمكن فيه تبرير قصف المستشفيات، أو تجويع الأطفال، أو إطلاق النار على أشخاص منهكين يسعون إلى تقديم المعونة.

لا يجب أن نسمح لهذا أن يستمر. ولا أن نغض الطرف عنه. لأن مثل هذا الانهيار الأخلاقي يؤكد أن التكنولوجيا بدون إنسانية هي مجرد خواء – قد تسرع خطواتنا، لكن دون أن نتقدم.  

وقد ينتهي بنا المطاف بعدم إدراك أنفسنا.

لهذا علينا أن نُعيد تقييم الأسس التي تُبنى عليها قيمنا بصدق. كثيراً ما نوجّه منظارنا إلى الخارج لنبحث عبر ثنائية الشرق/الغرب أو الشمال/الجنوب عن إجابات حول مفهوم القيادة الأخلاقية وتعريفنا للتقدم.

بدلاً من ذلك ماذا لو وجهناه إلى الداخل، إلى إرثنا القيمي الذي هو جوهر عاداتنا وتقاليدنا؟ لأن المصداقية لا تأتي من الخارج بل تنبع من الداخل. بدلاً من أن نقيس قيمتنا من خلال التصنيفات العالمية للاقتصاد والنفوذ والمكانة، يمكننا أن نحتكم إلى حقيقتنا الداخلية وقيمنا وإحساسنا بما هو صواب.

في الأردن، نحن فخورون بإرثنا، فخورون بقوّته وكرامته وعمقه. بلد نُقبّل فيه أيدي كبارنا، نَضُمّ فيه الجار المفجوع، ونُرحب فيه بالغريب بقهوة عربية وقلوب دافئة.

وفي زيارتي القصيرة للمكسيك لمست نفس الروح. إخلاصكم للعائلة، تعاطفكم مع المحتاجين، والكرم والمحبة في عبارة "بيتي بيتك". بالنسبة لكثير منكم ستظل الروح الدافئة والنابضة لبلدكم مرجعاً ومرتكزاً أساسياً طوال حياتكم.

بالنسبة لي، إيماني هو مرساي الأخلاقي. الإسلام يعلّمنا الرحمة، والعدل، والكرم، وكرامة الإنسان. وهذه ليست مجرد مبادئ، بل أفعال تُشكّل حياتنا اليومية – من كيف نضع جباهنا بتواضع على الأرض خلال السجود في الصلاة، إلى كيف نحيي بعضنا البعض: بــ "السلام عليكم".

مهما كان مرساك الأخلاقي ابحث عنه وتمسك به. سيساعدك على التعلّم من الآخرين دون أن تنتقص من نفسك.

وما ينطبق على الأفراد، ينطبق أيضاً على الدول. فالأردن والمكسيك قد لا يتصدّران التصنيفات العالمية، لكننا نسعى لفعل الصواب. وطني الأردن فتح أبوابه للملايين ممن شُردوا بسبب النزاعات. وتحدثنا باسم السلام، ووقفنا إلى جانب المهمّشين. والمكسيك أيضاً، سعت لفعل الخير وقدّمت الملاذ والصوت لمن لا ملجأ لهم.

في عالم يُساوي بين القوة الاقتصادية والتفوق الأخلاقي، كثيراً ما يُستهان بالدول النامية والناشئة.

وهذا تضليل. لأن التنمية لا تعني التحضر بالضرورة.

التنمية تُقاس بالأرقام: الناتج المحلي، معدلات النمو، الموازنات. وهذه بالطبع، مهمة.

أما التحضر، فيُقاس بالاختيارات التي نتخذها: كيف نعامل الآخرين وما نكون عليه في الشدائد.

هذا هو المنظور الذي نحتاجه – المنظور الذي، نعم، يحتفي بالتكنولوجيا، ويسعى للازدهار، ويستثمر في التقدّم... لكنه قبل كل شيء، يضع الإنسان فوق كل اعتبار.

وهذا يقودني إلى نقطتي الأخيرة.

وسط المعاناة التي رأيناها في فلسطين، تأثرت بشدة بردود أفعال كثيرين حول العالم ممن رفضوا السكوت. أناس خاطروا بتعليمهم، بسمعتهم، وسبل معيشتهم ليُعطوا أصواتاً لأُناس لم يلتقوا بهم قط.

وكيف أن الشباب، على وجه الخصوص، نهضوا وتكاتفوا — لأنهم يرون بأعينهم أن هذه المعاناة الكارثية لا تمت للإنسانية بصلة.

قد يبدو الأمر بسيطاً، بل بديهياً. لكن في عالمٍ تائهٍ أخلاقياً، تلك هي الشجاعة. أن تختار رؤية إنسانية غرباء لا تعرفهم في النصف الآخر من العالم، وأن تصغي لقصص نادراً ما تُروى، وأن تقول بصوت عالٍ ما يجب أن يُقال. ذلك هو منظورنا الأخلاقي السليم.

في عصر أصبح كثيراً ما يُختزل فيه الإنسان إلى مجرد أرقام، فإن هذا هو جوهر ما يجعلنا بشراً.

سيستمر العالم في التسارع، وسيطالبكم بالمزيد. وستواجهون قرارات أمام خيارات وتنازلات تبدو مستحيلة أحياناً. وربما تشعرون بأن الأمر يفوق طاقتكم في بعض الأحيان.

إليكم ما تعلمته: في الحياة تحت قناع التعقيد تكمن بساطة عميقة. ضجيج البيانات المتضاربة، والسياسة، والشخصيات، قد يُخفي ما هو جوهري حقاً. مهمتكم هي نزع الطبقات، طبقة بعد طبقة، حتى تصلوا إلى الجوهر: ماذا يعني أن تكون إنساناً.

مع مرور السنوات، ستتبلور الأمور الجوهرية وستتضح الصورة.

لكن، لا تنتظروا طويلاً حتى تبصروها بوضوح.

هناك آية من القرآن الكريم أتفكرها:

"أَفَلَمْ يَسِيرُوا۟ فِى ٱلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌۭ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ ءَاذَانٌۭ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى ٱلْأَبْصَـٰرُ وَلَـٰكِن تَعْمَى ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ" (الحج 46)

القلوب داخل صدورنا قد تكون عمياء.

وكثيراً ما شعرنا جميعاً بهذا. قلوبنا تحمل في أعماقها الرحمة والحكمة التي فطرنا عليها، مع ذلك قد نخشى أحياناً فتحها ومواجهة الحقائق الصعبة الماثلة أمامنا مباشرة.

لكن كما هي التكنولوجيا من صنعنا، قلوبنا أيضاً نستطيع تشكيلها.

قد تكون عمياء في لحظة، لكنها قادرة على اكتساب البصيرة في اللحظة التي تليها.

إن شئنا ذلك.

كل شخص في هذه القاعة أنجز أمراً استثنائياً بالفعل – تغلب على عقبات، وتحدى الصعاب، وحجز مكانه بفضل الموهبة والاجتهاد.

الآن، وأنتم تمضون في بناء المستقبل، لا تغفلوا عما هو مهم. ابقوا متيقظين، قولوا الحقيقة، وحافظوا على بصيرة قلوبكم.

شكراً لكم.