ترجمة لكلمة الملكة رانيا خلال مؤتمر حول العطاء الانساني

05 أيلول 2018

شكرا لك ريلي على هذه المقدمة. وشكرا جاك، على قيادتك واستضافتك لهذا الحدث المهم.

يسعدني تواجدي في الصين في هذا الوقت، فهنالك العديد من المؤشرات حولنا على أن هذا البلد في ازدهار مستمر.

وأنا ممتنة على العلاقات القوية التي تجمع بين بلدينا، وبالأخص على الدعم الكبير الذي تقدمه الصين للاجئين في الأردن.

أتواجد بينكم اليوم لأن العالم يحتاج إلى المزيد من الأمل والطاقة الإيجابية التي تحملونها.

كمجتمع عالمي، نواجه العديد من التحديات الصعبة، تحديات خطيرة كالجوع، وتحديات ذات تأثير واسع كالتغير المناخي، بالإضافة إلى تحديات قديمة كالتطرف، وتحديات جديدة كالذكاء الاصطناعي.

ولكن، أي شخص لديه شكوك حول قدرتنا على مواجهة هذه التحديات، عليه فقط النظر إلى تجربة الصين.

فمن السور العظيم وقناة هانغتشو الكبرى حتى أفق شانغهاي، الصين مليئة بالشواهد على إبداعات الإنسان.

رؤية هذه المعالم تذكرنا بقدرة الإنسان على تحقيق أشياء غير اعتيادية لأننا لدينا الدافع للمحاولة.

وعندما يتعلق الأمر بالعطاء، فدافعنا للمحاولة يتخطى الحضارات والأجيال والجغرافيا.

وذلك باعتقادي لأن العطاء يشكل جزءا مهما من إنسانيتنا.

فالكرم ليس فضيلة فقط، فقد كان محورا أساسيا لبقائنا. وفي الواقع، تشير أحدث الدراسات العلمية إلى أن الكرم يدخل في التركيبة البيولوجية للإنسان.

فقد اكتشف علماء الأعصاب بأن التبرع لإحدى القضايا المهمة يحفز موجات السعادة في الدماغ.

والنتائج لا تقف هنا فقط، فقد وجد الباحثون أن الأشخاص المشاركين في الدراسة كانوا أكثر سعادة عند تبرعهم بالأموال مقارنة بسعادتهم عند حصولهم على المال.

لقد تبين أننا كبشر، نشعر بالنفع الداخلي حينما نقوم بأعمال خيرية للآخرين.

فالعطاء ليس أفضل ما نقوم به لمساعدة الآخرين فقط، بل هو أيضا أفضل ما نفعله لمساعدة أنفسنا.

هو نتيجة لتشارك عقولنا مع قلوبنا، وطريقة للتعبير عن المنطق والحب. وهو نقطة التقاء الشغف مع الغاية.

ولا يوجد مجال تسطع فيه هذه التركيبة الإنسانية من التعاطف أكثر من العطاء لدعم التعليم.

كما تعلمون التعليم في منطقتنا يقبع في أزمة. فالحروب الأهلية والنزاعات المسلحة تتصدر عناوين الأخبار، لكن تختبىء خلفها كارثة أخرى: العنف والنزوح القسري يمنع أكثر من 15 مليون طفل من الذهاب إلى المدرسة.

في الأردن، حيث استقبلنا أكثر من 155 ألف لاجئ في عمر المدرسة، يعاني قطاع التعليم الحكومي من ضغط هائل قد يصل لنقطة الانهيار. والعديد من أطفالنا اليوم لا يتعلمون المهارات التي يتطلبها سوق عمل المستقبل.

التعليم هو حق لكل طفل، وهو نعمة الحكمة التي تتناقلها الأجيال. اسألوا الأم التي تقطع مسافات طويلة وتنفق آخر مدخراتها لترسل أطفالها إلى المدرسة، واسألوا المعلم الذي يعمل لساعات طويلة بأجر متدني وستكون اجابة كليهما: أن تعليم أطفالنا نابع من حبنا لهم.

وبالطبع التعليم أيضا منطقي. وهو مصدر لتطور البشرية وتقدمها والدواء الشافي للتطرف، والأساس الذي يبنى عليه أي مجتمع آمن.  

ونحن في الأردن ندرك ذلك. فبلدنا لا ينتج النفط، ومن أفقر دول العالم مائياً.  ولطالما كان مصدر ثروتنا الطبيعي الوحيد هو الإنسان. إلا أن الأزمة التي يمر بها نظامنا التعليمي وضعت هذا المصدر في خطر.

هذه هي كارثتنا الطبيعية، التسونامي والهزة الأرضية التي أصابتنا. إلا أنها بدل أن تجتاحنا مرة واحدة، فهي تحدث بالعرض البطيء، وتدريجياً تحرم جيل الشباب من تحقيق كامل إمكانياتهم.

نحتاج لأن يتيقظ العالم لهذه الأزمة، وأن نتعامل معها بإلحاح وإبداع وعطاء، كغيرها من القضايا العالمية الطارئة.

فهذه الأزمة لا تنحصر بالأردن أو بالعالم العربي. فشبابنا يمكن أن يصبحوا أفضل علماء العالم في المستقبل، وأفضل المهندسين والأطباء والفلاسفة والقادة. يمكن أن يساعدوا العالم في مواجهة التغير المناخي والفقر والإرهاب والأمراض في حال منحوا فرصة قوية للمشاركة.

إن حل هذه الأزمة يتطلب تحرك عالمي يدفعه المنطق والحب. ودعم هذا التحرك أصبح شغفا لدي. فقبل خمس سنوات، أسست مؤسسة الملكة رانيا للتعليم والتنمية لتكون انطلاقة لهذه الجهود ومركزاً لنماذج وشراكات تعليمية جديدة.

وبعد سنتين عقدنا شراكة مع جامعة هارفرد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا لإطلاق إدراك، وهي منصة مجانية للمساقات الجماعية الإلكترونية المفتوحة المصادر توفر تعليما نوعيا للطلبة باللغة العربية في أي مكان في العالم بما فيها مناطق النزاع ومخيمات اللاجئين.

والخبر المفرح هو أننا نحرز تقدما مستمرا. ففي أول سنوات للمنصة تمكنت إدراك من الوصول إلى حوالي مليوني متعلم، ونعمل حاليا من أجل الوصول إلى أضعاف هذا العدد.

وقد كانت مؤسسة جاك ما داعما وشريكا رائعا لعملنا. فكونه معلما سابقا للغة الإنجليزية، واليوم مناصراً أساسياً للتعليم، وهو يدرك قوة تأثير الشراكة بين المنطق والحب.

ولأنه أمضى وقتا داخل الصفوف، فهو يدرك شيئا آخر أساسياً في قضيتنا الإنسانية، وهو كيف تسير الأمور على أرض الواقع. 

يجب أن تعمل عقولنا وقلوبنا سويا لمواجهة أكبر تحدياتنا، وبالأخص تلك التي تبدو بعيدة عنا أو لا تؤثر بشكل مباشر على حياتنا. لكن يجب علينا أيضا أن ندعم الأشخاص الذين يعملون على مستوى القاعدة الشعبية ويستعملون تجاربهم الخاصة في الحياة لايجاد حلول لمشاكلنا اليومية.

ويناقش المؤتمر اليوم موضوع "الإيمان بقوة الجهود الصغيرة". ولسنا بحاجة إلى النظر بعيدا لنرى أمثلة على أشخاص يقومون بجهود بسيطة تحدث تغييرات كبيرة. 

فهنالك فريق العمل التطوعي وراء مشروع "لايفلي جرين كولور" في مدينة تشنغدو، والذين يستعملون السماد والزراعة الحضرية ووسائل أخرى للتقليل من المخلفات في المراكز الحضرية.

أو روان بركات، وهي سيدة أردنية ضريرة تعمل حاليا على إنشاء مكتبة للكتب الصوتية ليستفيد منها جميع الطلبة بمختلف قدراتهم.

أو عمر الشاكل وهو لاجئ سوري قطع البحار سباحة لمدة أربعة عشر ساعة  حتى يصل إلى بر الأمان في اليونان، وهو اليوم ينظم رحلات إنقاذ لمساعدة آخرين يقومون بمثل هذه الرحلات الخطيرة.

نعم، فالجهود الصغير يمكن أن تكون قوية، وما يبدأ صغيرا يمكن أن يكبر. وعندما تتحرك دولة من مليار فرد بدافع المنطق والحب، ممكن أن نحدث تأثيرا إيجابيا يمتد أثره لأبعد مما يمكن توقعه.

وهذا لا يعني بأن تلك الأعمال سهلة، أو أنها دائما مجزية، بل على العكس تماما، ففي بعض الأحيان ستشعرون بالإحباط، وبرغبة في دفن رؤوسكم بالرمال، أو الاستسلام والهروب من المشاكل التي تحيط بكم.  

لكنني متأكدة أنكم ستعاودون المحاولة، لأننا جميعا ملزمون ببعضنا البعض. فبقاؤنا يعتمد على ذلك. وحتى عندما نواجه الظروف الجبارة فلا يمكننا ردع رغبتنا البشرية في المحاولة.

فالسور العظيم، والقناة الكبرى، وأفق شنغهاي، هذه الإنجازات الهندسية العظيمة ستبهت أمام العالم الأفضل الذي ستبنونه في المستقبل.

شكرا لكم