ترجمة لكلمة الملكة رانيا خلال الغداء الدولي "دعاء من اجل طريق ثالث"

03 شباط 2023

دعاء من أجل طريق ثالث

بسم الله الرحمن الرحيم

السيناتور ايمي كلوبوشار، شكراً على كلماتك.

أتشرف أن أكون معكم هنا اليوم.

مثل مئات الملايين من المسلمين، بدأ نهاري قبل شروق الشمس بأولى صلواتنا الخمس اليومية.

صلاة الفجر تُقام قبل فنجاني الأول من القهوة… ومع ذلك، يبقى هذا الوقت من اليوم هو المفضل لدي.

أعتقد أن لذلك علاقة بأن الفجر هو الوقت "بين البينين". فالسماء لا تحمل لوناً ولكن فيها كل الألوان. اليوم في بدايته، ومع ذلك مليء بالاحتمالات. ولبرهة تجد نفسك عالقاً في فضاء بين الظلمة والنور، بين النوم واليقظة، بين التأمل والعمل.

فبالنسبة لي، الفجر هو شاهد على تلك الروحانية التي نجدها في الظلال الرمادية، وذلك الجمال المتأصل في ثنايا التفاصيل والاختلافات... وعلى هِبة العقول والقلوب المنفتحة.

هي لحظة تحمل تناقضاً لما نسمع ونرى من حولنا.

فبغض النظر عما نحمل من عقائد وخلفيات، بإمكاننا الاتفاق جميعاً، أن الاستقطاب أضحى معلماً رئيسياً من معالم حاضرنا.

ألغى الظلال الرمادية وأجبرنا على الانحياز إلى الأبيض أو الأسود، لِنفقد بذلك أي بُعد أو تفصيل.

في هذه البيئة من الاستقطاب، باتت الغالبية مجبرة على الانحياز لقطب دون سواه: اليسار أو اليمين، مع أو ضد، الثناء أو الإقصاء.

وبدلاً من تحفيز المشاركة السياسية الفاعلة، أُجبرت الأغلبية على اتخاذ قرارات خاطئة: فإما الانحياز حد الهوس، أو عدم الاكتراث المطلق.

كَثُرت مناقشة العوامل التي تدفع عالمنا اليوم إلى هذه الحالة من الاستقطاب. فالعولمة تركت الكثيرين على الهامش، وشحنت الهجرة عقول الشعوب وزرعت فيها هواجس شح الموارد والشعور بالتهديد، وأفقدتنا الجائحة إحساسنا بالاستقرار، وفي الوقت ذاته قلصت وسائل التواصل الاجتماعي آفاقنا.

ومع كثرة العواصف، تجدنا نبحث عن الأمان. التمسك بالهوية هو أحد الخيارات. في حين وجد الكثيرون ضالتهم في اللجوء إلى الدين كملاذ آمن.

لكن الدين ليس مأوى للاختباء... هو مُنطلقنا للحياة.

سواء كُنا مسلمين أو مسيحيين أو يهود، أو أياً كانت هويتنا، فالدين لا يقتصر فقط على من نكون، فهو ما نفعل - وكيف نفعله أيضاً.

فالدين يُرشدنا في حياتنا. وهو سبيلنا لتحقيق التوازن فيها... والاحتفاء بالوسطية، وبتلك الأشياء والتفاصيل الصغيرة التي تحدد معالم حياتنا، بعيداً عن التطرف.  

في ديني، نسأل الله العلي القدير باستمرار أن يهدينا إلى "الصراط المستقيم". فيومياً وفي صلواتهم يسأل المسلمون الله أن يرشدهم للطريق الصحيح أكثر من 17 مرة، وما ذلك إلا إقرار بحاجتنا المستمرة للهداية.

واليوم، أقول لكم أن الصلاة - وهي الممارسة الجوهرية للإيمان – تستطيع أن تُرشدنا نحو مسار أفضل... مسار سأدعوه الطريق الثالث.

هذا الطريق الثالث ليس متوسط نقيضين، بل يسمو على القطبية، ويرفعنا إلى أرضية أعلى أقرب ما أن تكون أرضية مشتركة أيضاً.

ولكي نمضي في هذا الطريق، علينا أن ندرك أن لا أحد منا على حق أو على باطل بالمطلق، شرير أو ضحية، مستنير أو قابع في الظلمة. فكلٌ منا خليط خاص من هذه الحالات... لا بل وأكثر بكثير من ذلك.

للسير في هذا الطريق، علينا أن ندرك أننا لسنا بحاجة للقتال من أجل تأمين حصتنا من الكعكة، فبإمكاننا تكبير الكعكة لتكفي بأكملها الجميع.

الحقيقة أننا نعيش في عالم من الوفرة. أن يربح أحدنا لا يعني بالضرورة خسارة شخص آخر. وكونك على صواب لا يعني أن الطرف الآخر مخطئ – فما أحوجنا لتعدد وجهات النظر، حتى نرى صورة متعددة الأبعاد.

السير في هذا الطريق يعني الابتعاد عن الشعارات واستيعاب الاختلافات. يعني احترام العلوم والأبحاث، والبيانات والتفاصيل. وعندما يُطل علينا أيهم بخلاف ذلك – سواء على شبكة الانترنت أو في المطبوعات أو من خلف منصة – لا نوليه اهتمامنا.

وبدلاً من اتباع أصحاب الأصوات الأعلى، يتطلب منا الطريق الثالث التوقف والتمعن للتمييز بين الحقيقة والرأي... ورفض السياسات المدفوعة بالغضب... ومقاومة التعميمات والصور النمطية.

أعتقد أن الطريق الثالث يمدنا بإمكانات أعلى للتعامل مع مشاكلنا الأكثر إلحاحاً.

إن اخترناه، سنهتم بالطبقة العاملة وبكوكبنا على حد سواء، فأقدارهم مرتبطة.

وسندرك أن الهجرة العالمية هي واقع. وسننتقل من محاولة قمع حركة تنقل الناس إلى إدارتها، لكن بإنسانية.

وسنتقبل إمكانات التقنيات المتقدمة كالذكاء الاصطناعي، وفي الوقت ذاته نشدد على أهمية أن يكون التعاطف الإنساني مبرمج في مستقبلنا... مستقبل يقر أن التمييز على أساس لون البشرة أو العرق ليس مستنكر أخلاقياً فقط، لكنه جهل مطلق وفكر بدائي أيضاً. 

الطريق الثالث هو الطريق الوحيد الذي يمكننا السير فيه معاً دون انحياز أو استقطاب أو انطباعات سلبية مسبقة.

لن نراه على خريطة، لكن الصلاة تُعودنا على تجسيد مواقف سنحتاج إليها من أجل إيجاده – أو صياغته-. وإذا كنا على استعداد لتبني المواقف أو المبادئ التالية، استطعنا معاً المضي في طريقنا الثالث.
 

المبدأ الأول هو التواضع

في الإسلام، عندما نصلي، نسجد. لذا فكل صباح ومرات عدة خلال النهار نجثو ونضع جبهاتنا على الأرض.

عندما نحني أنفسنا، ندرك ضآلة حجمنا. نتقبل ضعف قوتنا وقصور وجهة نظرنا.

وعندما نرى أنفسنا بصورة أوضح، نتمكن من رؤية الآخرين بوضوح أكبر أيضاً.

في النهاية، يجب ألا نركز على قوة خصمنا بل على هشاشته وقلة حيلته، على مشاعر الخوف والقلق المتجسدة وراء المواقف التي قد تبدو أكثر رجعية. 

ترشدنا الكتب السماوية القرآن والانجيل والتوراة، أن "نسير بتواضع". وعندما نسير بتواضع، يُفتح أمامنا طريق جديد.

فبدلاً من أن نجد فيما هو غريب تهديداً، نرى ضعفنا المشترك.

بدلاً من أن نشعر بالغضب تجاه من يخالفنا في وجهات النظر، نرى قصص الألم والفقد الكامنة وراء معتقداتهم وقناعاتهم.

وبدلاً من حمل الضغينة ضد الذين يسيئون لنا، يمكننا الاعتراف بحاجتنا نحن أنفسنا للمسامحة – ونختار أن نسامحهم أيضاً.

يُذكرنا التواضع أن بصيرتنا محدودة، وحياتنا زائلة، ويُذكرنا بما فينا من عيوب... وأن الأمر ذاته ينطبق على جميع البشر.
 

ظرفنا المشترك يقودوني للمبدأ الثاني: الوحدة.

فبغض النظر عن مكاننا في العالم، يتجه جميع المسلمين لنفس القبلة في صلاتهم: مدينة مكة، وبالأخص الكعبة – المكان الأكثر قدسية في ديننا.

وأحمد الله أن أنعم عليّ بفرصة الذهاب هناك وأداء الحج الإسلامي.

في الحج، يتجه أكثر من مليوني مسلم إلى مكة كل عام ليطوفوا حول الكعبة سبع مرات، في أكبر تجمع سنوي للبشر في العالم.

من الأعلى، يبدو المنظر كدوامة من البياض، مع كل لون آخر ممتزج فيه. وإن قربت الصورة، سترى المصلين - فقراء وأغنياء، أقوياء وضعفاء، رفيعي الشأن ومستضعفين- ... جميعهم يسيرون متكاتفين، متساويين أمام الله.

في كل مرة أقوم بهذه الرحلة حول الكعبة – الرحلة ذاتها التي قام بها قبلي عدد لا يحصى من الحجاج، وهي تلك الرحلة التي سيقوم بها عدد لا يحصى من الحجاج من بعدي – أجد نفسي أبكي وأنا أطوف... تغلبني المشاعر لكوني جزء من أمر أكبر مني بكثير.

لكن دعوني أكون واضحة: الوحدة لا تعني التشابه.

يعلمنا القرآن أننا خُلقنا من ذكر وأنثى وشعوب وقبائل مختلفة لنتعارف. نعم، الاختلاف من أجل بناء العلاقات. والتنوع من أجل التعاون.

الوحدة هي التي تمكننا من الإدراك أننا جميعاً نسعى لذات الأمور: الأمان... الانتماء... ومستقبل لأطفالنا.

قد لا يكون إيجاد الوحدة سهلاً كتحديد اتجاه الكعبة. لكن كما تجذب الشمس الكواكب لتدور حولها، تربطنا قوة شبيهة في داخلنا إن وثقنا بجاذبيتها.
 

الموقف الأخير الذي يجب أن نتبناه هو الأمل – وهو متأصل في فعل الصلاة ذاته

في صلاة الجمعة في المساجد، يقول الامام للمصلين اذكروا الله يذكركم وادعوه يستجب لكم. وفي صلاتهم يقول اليهود أن الله يشفي المريض ويطلق السجناء. وفي الصلاة الربانية، يقول المسيحيون ليأتِ ملكوتك، لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض.

تلك ليست تصورات واهمة لواقع عالمنا اليوم – بل هي آمال لمستقبله.

آمال أن تكون الأمور أفضل مما هي عليه. أن كل فجر جديد يحمل فرصة لتحقيق ذلك.

لقد تعلمت الكثير عن الأمل من أشخاص قد لا يمتلكون أبسط الأسباب لذلك.

هنالك الملايين من اللاجئين في بلدي. وقد جسدوا الأمل عند كل منعطف: عندما حزموا حقائبهم... عندما فروا سيراً على الأقدام... عندما جعلوا من أماكن غير مألوفة بيوتاً... عندما - وهم الذين لم يملكوا شيئاً - وجدوا طرقاً لمشاركة كل شيء – الضحكات، الطعام، الموسيقى والحب.

في أصواتهم، سمعت صدى النصوص المقدسة: سيدنا موسى... سيدنا المسيح... سيدنا محمد، عليهم الصلاة والسلام. أشخاص واجهوا الظلم ليمنحوا بذات الوقت الأمل.

هم أيضاً أجبروا على ترك أوطانهم، هرباً من العنف والاضطهاد في فترة من حياتهم. ومع ذلك، نادوا بالأمل. ليس أملاً لتحلية صفقة سيئة... ليس أملاً لتخفيف ألم واقع مرير... لكن أمل - كما المصاعب - حقيقي. دعوة لنا جميعاً للاستمرار في المحاولة.

ولطالما كانت الولايات المتحدة مثالاً للأمل، وكما يقال "مدينة مشرقة على تل".

بالتأكيد لست أمريكية، لكنني أقول ذلك كشخص لطالما احترم ما حملته هذه الدولة في أفضل حالاتها من قيم.

في أفضل حالاتها، احتضنت هذه الدولة الغرباء، إقراراً أن التنوع يُغني الجميع.

في أفضل حالاتها، كانت هذه الدولة كريمة بالتعاطف، جاهزة لمد يد المساعدة لمن هم بحاجة.

في أفضل حالاتها، تميُز هذه الدولة في الابتكار هو الذي أشعل النمو والفرص.

أبعد الاستقطاب الكثيرين عن القيم التي تمثل جوهر هذه الدولة... القيم التي يتطلع إليها الآخرون حول العالم. وبذلك، فكك صداقات وعائلات ومجتمعات بأكملها.

أعتقد أن الأمريكيين يدركون مقدار التعافي المطلوب لتعود هذه الدولة لأفضل حالاتها. وبعون الله يستطيعون إيجاد طريقهم للعودة إلى تلك القيم... ومعاً، يمكن لعالمنا أن يجد طريقه للمضي قدماً.

ففي نهاية الطريق التواضع والوحدة والأمل ليسوا وجهتنا. بل سبيلنا لإيجاد ذلك الطريق الثالث.

وبدون شك: سنحيد عن الطريق.

لكن تبقى الفرصة أمامنا للعودة.

سيعود البعض منا إلى سجادة الصلاة، أو إلى المذبح. والبعض سيعودون إلى الكنيس... المعبد... أو إلى منازلهم. خلال السير في الطبيعة... أو في لحظة بسيطة من التأمل الهادئ.

هذه الممارسات قد تبدو وكأنها استراحة قصيرة من خمس إلى عشر دقائق عن مشاغل العالم. لكن في الحقيقة، نحن بحاجة إلى أن تتغلغل قيم الصلاة في بقية حياتنا وفي عالمنا – ولنُذكر قلوبنا مراراً بالحقائق التالية: أن هناك عظمة في التواضع، وقوة في الخضوع... وأننا لا نجد أنفسنا إلا من خلال تكريس حياتنا لخدمة الآخرين.

يدعوه الإسلام الإصلاح – إصلاح أنفسنا، علاقاتنا، ومجتمعنا... المسيحية تدعوه السعي إلى الملكوت... أسماء مختلفة لنفس المسؤولية لمحبة جارنا – حب حقيقي كالخبز لطفل جائع، كالعناية بأرملة مريضة، وكالسقف فوق رأس لاجئ.

يبدو الفجر مختلفاً في كل مكان على الأرض... لكن السماء ذاتها هي التي تمتد فوقنا جميعاً.

الأصدقاء من كل الأمم،

عسى أن يظهر الله لنا الطريق... وعسى أن نسير ذلك الطريق المشترك معاً.

 

شكراً.