ترجمة خطاب قمة عالم شاب واحد ميونخ، ألمانيا
بسم الله الرحمن الرحيم
شكراً لكم. سعيدة بالعودة للقائكم.
أصبت بنزلة برد خفيفة، لذا إذا انتابتني نوبة سعال، فرجاء تظاهروا بأنها استراحة درامية مقصودة. فما كنت لأفوت هذا التجمع الرائع في هذه المدينة الجميلة.
حضرت قمة "عالم شاب واحد" أول مرة قبل عامين، في بلفاست، لكن من المذهل أن نتأمل كم تغير العالم منذ ذلك الحين.
لقد تحول الذكاء الاصطناعي من مجرد فكرة رائجة إلى أمر لا مفر منه. ازدادت حلقة الاستقطاب السياسي تحكماً. تجاوزنا أول نقطة تحوّل كارثية في المناخ. وازدادت الصراعات العالمية إلى أعلى مستوياتها منذ عقود.
لكن لا توجد منطقة على وجه الأرض شهدت تحولاً وحشياً كالذي شهده قطاع غزة. عندما تحدثنا أول مرة في عام 2023، قبل أيام من اندلاع الحرب، كان سكان غزة قد دخلوا عامهم السادس عشر تحت حصارٍ قاسٍ.. يعانون، يختنقون، لكن أحياء.
غزة تلك لم تعد موجودة.
في غضون عامين فقط، مدن بأكملها سويت بالأرض، أُبيدت أسر بأكملها، أو لم يتبق منها سوى ناجٍ واحد. قتل آلاف الأطفال، وعدد لا يحصى منهم أصبحوا أيتاماً، جائعين، جرحى، ومثقلين بالصدمة.
حتى هذه اللحظة، يبقى اتفاق وقف إطلاق نار هش قائماً، وكم كان من المريح أن تنتهي إراقة الدماء، وأن نتحرر من الانقباض الذي طال قلوبنا، ونمضي قدماً.
ليت الأمور بهذه البساطة.
لكن مهمة إعادة البناء الهائلة ما زالت تنتظر. والاحتلال الإسرائيلي غير الشرعي لفلسطين ما يزال مستمراً. وما يزال قمع الشعب الفلسطيني متواصلاً. وما يزال التوصل إلى حل عادل لهذا النزاع الذي امتد لعقود، للفلسطينيين والإسرائيليين، صعب المنال.
لكن تداعيات غزة لم تقتصر على منطقتي فحسب. لا شك أن العديد منكم رأى خطوط الصراع تُرسم في بلدانكم: في جامعاتكم، في أماكن عملكم، وساحاتكم السياسية، وحتى على موائد عائلاتكم. إن كنتم مثلي، فربما خضتم نقاشات كثيرة وصعبة حول هذا الصراع، بعضها قرّب بينكم، وبعضها الآخر فرقكم.
على أي حال، كانت الآراء حول هذه المسألة مشتعلة بالعاطفة. وردود الفعل عليها غريزية، ربما لأننا شهدنا- في الوقت الحالي- الحقيقة الواضحة للكراهية عندما تتحول من شعور إلى كلمات، ثم إلى أفعال. لقد أُجبرنا على مواجهة العواقب الوحشية لذلك التحول.
الأمر ليس مقتصراً على غزة فقط. ففي جميع أنحاء العالم، نرى الكراهية تتسلل مجدداً إلى أسس مجتمعنا العالمي. وليس الخطر فيما تدمره الكراهية فقط، بل لما تعيد تشكيله في بوصلتنا الأخلاقية، وإحساسنا بالإنسانية.
الكراهية تَسخر من الأخلاق. تمنح الناس إذناً للاستهانة بالمبادئ، وتحويل الخطوط الحمراء إلى مادة للسخرية.
على شبكات التواصل وخارجها، في صفوف الدراسة كما في أروقة السلطة، أصبح من المألوف تسييس التعاطف، والسخرية من الدعوات إلى المساواة، ومعاملة ضحايا العنف بريبة تفوق تلك الموجّهة إلى مرتكبيه.
يعلمنا التاريخ أننا نستطيع تحديد الكراهية، وإدانتها، بل وحتى دفعها إلى التواري تحت الأرض، لكنها لن تبقى هناك. ففي السنوات الأخيرة، عادت الكراهية بقوة، وإن كان ذلك تحت أسماء مختلفة:
العنصرية المتخفية في عباءة الوطنية.. التفوق العرقي في عباءة الفخر الثقافي.. ومعاداة السامية وكراهية الإسلام تقدمان على أنهما حرية تعبير. كلها يعاد تسويقها لجمهور حديث، فيما تتسلل الكراهية بالتدريج عبر نكتة أو ميم ساخر، أو تعليق غير لائق.
لكن للكراهية عواقبها، فالاستهانة بها باعتبارها "مجرد كلام" هو تجاهل لكيف بدأت كل إبادة جماعية: بالكلمات.
لقد شكل الخطاب المجرِد للإنسانية مقدمة لبعض أسوأ فصول التاريخ البشري. ففي ثلاثينيات القرن الماضي، وفي هذه المدينة ذاتها، وصف الحزب النازي اليهود بأنهم "آفات". وفي رواندا، وصف البث الإذاعي العام التوتسي بأنهم "صراصير". وفي ميانمار، شبه القوميون الروهينغا بـ "الكلاب الضالة".
"مجرد كلام"… حتى يُمهد خطاب الكراهية الطريق لعنف لا يوصف.
في أعقاب هجمات السابع من تشرين الأول، عندما أعلن مسؤول إسرائيلي حصاراً تاماً على غزة، وصف السكان بأنهم «حيوانات بشرية». كان يسير وفق نهج قديم مجرب: أقنع الجمهور بأنك تتعامل مع وحوش، فلا يصبح العنف مقبولاً فحسب، بل ضرورياً.
أناس عاديون مثلنا يصورون بأنهم وحوش.. حتى يصبح التعامل معنا بوحشية أمراً مبرراً.
أقف هنا في ميونخ، مدركة التاريخ الذي ينبعث عبر هذه المدينة وهذا البلد. أعلم أنها ليست مواضيع يسهُل الحديث عنها هنا، وأقول هذا بكل احترام لالتزام ألمانيا للذكرى والمسؤولية.
لكن الأمر ليس مسألة موازنة بين الأحزان أو مقارنة بين الآلام، بل تأكيد على أن كل حياة بشرية لها ذات القيمة. نعم، كل فظاعة لها طابعها الخاص، لكن قيمة الحياة الإنسانية عالمية. والدفاع عن هذه الحقيقة اليوم، في أي مكانٍ تُهدَّد فيه، لا يعني تجاهل الماضي بل التذكير به.
وبعد ثمانين عاماً على انتهاء الحرب العالمية الثانية، تستمر ألمانيا في مواجهة ماضيها وجهاً لوجه، بدلاً من أن تلتفت بعيداً.
وجزءٌ من مواجهة الماضي هو امتلاك الوضوح الكافي لنسمي الظلم باسمه اليوم — أينما وقع، وضدّ من وقع. هذا هو الانضباط الأخلاقي والثبات على المبدأ.
يُذكرنا التاريخ بثمن الصمت.
لأن الكراهية لا يمكن أن تتقدم دون حليفها الصامت وهو اللامبالاة.
تُعطى الكراهية شرعيتها من أولئك الذين يرفضون التطرق إلى القضايا الصعبة، قائلين "إنها معقّدة"، لكن ما يقصدونه في الحقيقة: "لا نريد أن نُتعب أنفسنا."
إليكم ما هو ليس معقداً: مراراً وتكراراً، حذر الخبراء من أنه في غزة هناك عمليات تشريد جماعي، ومجاعة، وإبادة وشيكة. وفي الأشهر القليلة الماضية، جرى تأكيد المجاعة والإبادة الجماعية من هيئات عالمية مستقلة وأخرى تابعة للأمم المتحدة. رأى العالم ذلك قادماً، لكنه أخفق في التحرك لمنعه.
مع تراكم الأزمات، يسمح البعض لأنفسهم بأن يفقدوا الإحساس بثقلها. يمرون سريعاً عن الصور التي تُظهر المعاناة.. يتجنبون العناوين المزعجة.. وينعزلون عن الواقع من حولهم. التعرض اليومي لهذا المحتوى يُخدر الغضب. ومع التكرار، والفوضى، والضوضاء، تصبح الفظائع وكأنها عادية. مباحة. وحتمية.
لكن اللامبالاة ليست أمراً بريئاً أيضاً. إنها تطيل عمر الظلم. تنازل صغير تلو الآخر يؤدي بنا إلى استسلام صامت للسقوط الأخلاقي.
واعتبر بعض المفكرين السياسيين أن الفظائع ليست دائماً مدفوعة بأيديولوجية متعطشة للدماء؛ بل في الواقع، الناس العاديون قادرون تماماً على ارتكاب أعمال عنف استثنائية الوحشية.
كيف؟
بعدم التفكير بأنفسهم.
مثل "انعدام التفكير" هذا لا يعني نقص الذكاء، بل رفض التأمل في معنى الصواب والخطأ.. ورفضهم مواجهة الشعور بالذنب تجاه تورطهم المحتمل.
وقد كرر مؤرخون وباحثون أكاديميون هذه الفكرة: بأن مرتكبي أعظم الجرائم البشرية لم يكونوا بالضرورة وحوشاً؛ فالكثير منهم كانوا بيروقراطيين. امتثلوا، وأطاعوا الأوامر، ولم يتوقفوا يوماً للتأمل في الوزن الأخلاقي لأفعالهم.
هذه الظاهرة لا تقتصر على أحلك لحظات تاريخنا. إلى حد ما، نفس الدافع – للانسحاب وللتوقف عن التفكير – هو أمر نعاني منه جميعاً.
لكن الاستسلام يأتي بعواقب فعلية.
اللامبالاة شكل من أشكال الكسل الأخلاقي. هي تحييد متعمد للعقل والقلب معاً، هي اختيار عدم الاكتراث بدل الفضول، والراحة بدل المشاركة، وفي كل ذلك خيانة للذات.
وفي عالمنا اليوم الذي تحركه التكنولوجيا وتغلب عليه العزلة، تتفاقم اللامبالاة بسبب الوحدة، وهي حالة تؤثر على ما يقارب شخصاً واحداً من كل ستة أشخاص حول العالم. ومن دون الركيزة الأخلاقية والاجتماعية للمجتمع، أصبح الناس من جميع الأعمار يلجؤون إلى التكنولوجيا بحثاً عن الراحة. لكن كلما زاد اعتمادنا على شاشاتنا، كلما أصبح الفراغ أعمق.
العام الماضي، انقسم استخدام الذكاء الاصطناعي تقريباً بالتساوي بين الاحتياجات الشخصية والمهنية. هذا العام، تغيرت القصة. فأكثر الاستخدامات شيوعاً للذكاء الاصطناعي باتت تشمل الرفقة، والعلاج النفسي، والبحث عن الهدف والمعنى.
فكروا في ذلك لثانية. بسرعة البرق، أصبحنا نستبدل الروابط الإنسانية بوهم التواصل العاطفي، ونحاول الإجابة عن أعظم أسئلة الحياة بردود عامة وحلول مصطنعة.
إن هذا ليس تقدماً، بل تفويض لتفكيرنا، وتعاطفنا، بل وحتى لبحثنا عن مغزى أعمق لحياتنا. نحن نسلم مفاتيح إنسانيتنا بتهور ليس لأننا نثق في قدرة الآلات على القيام بعمل أفضل، بل لأن الأمر أكثر راحة وسهولة.
هل هذا هو المستقبل الذي نريد؟ وهل هذا أفضل ما نستطيع فعله؟
من دون طريق واضح للمستقبل، سيكون من السهل أن نصاب بالإحباط.
بالنسبة للكثيرين حول العالم، غزة ليست مجرد مكان، بل رمز. عندما انهارت مبانيها، انهارت معها الثقة بالنظام العالمي. وعندما شُرد شعبها، تزعزع إيماننا بالبوصلة الأخلاقية للعالم. وعندما جُوع أطفالها، تلاشى أيضاً الأمل في انتصار الإنسانية.
لقد ذكرتنا السنتان الماضيتان بأن التقدم ليس أمراً حتمياً. لكنها كانت شاهدة أيضاً على أضخم حركة شعبية عفوية عرفها العالم في الذاكرة الحديثة. لقد تحرك الناس العاديون، في أنحاء العالم، لا بدافع المال أو التلاعب – كما ادعى البعض، بل بدافع الشعور المُلح للتمسك بما تبقى من إنسانيتنا..
الشباب على وجه الخصوص يطالبون العالم بشيء مختلف – ليس الكمال، بل النزاهة. القادة الشباب مثلكم يجبرون البشرية على تقييم نقاط الضعف في ماضينا بصدق قاسٍ، على أمل أن تتمكنوا من إيقاف تكرارها.
غالباً ما تكون طموحاتنا محدودة بخيالنا، فإذا لم نتمكن من تصور مستقبل أفضل، سنفترض أنه مستحيل. لكن الحقيقة هي أننا لسنا مقيدين بأنماط التاريخ؛ بل يمكننا التحرر منها. يمكننا بناء شيء أفضل، إذا ما تجرأنا على تخيله.
خذوا هذه المدينة كمثال، اليوم، تعتبر ميونخ مكاناً للحوار والتسامح. ومع ذلك، كانت ذات يوم مهد الحزب النازي، ذلك الفكر الذي كان يُصدِّر الكراهية عبر الحدود.. في ميونخ تلك، كان من غير الممكن تخيل هذا التجمع العالمي؛ ومع ذلك ها نحن هنا اليوم.
والأمر الآن متروك لكم لتقرروا إلى أين سنتجه بعد ذلك.
اعلموا أن الأمل ليس مجرد تفاؤل ساذج؛ بل شجاعة تتحدى اليأس. إنه ما يدفع الناس للمطالبة بحرية شعب لم يلتقوه قط.. وإلى الضغط على مؤسساتهم للالتزام بمعاييرها الأخلاقية.. وإلى التبرع، والاحتجاج، والتنظيم، وحتى الإبحار في محاولة لكسر حصار شعب يتضور جوعاً.
واعلموا كذلك، أن الحب يتطلب قوة أكبر من الكراهية. أن تكون شاهداً على الفظائع ليس بلا ألم، لكن وجع القلب هو ثمن اليقظة...
نعم، التعاطف يجعلك أكثر ضعفاً. يجعلك تتوقف للحظة، وتعيد النظر، وتواجه ما يزعجك — ولكن أليست هذه بالضبط الأشياء التي تبقي القسوة بعيدة؟
أولئك الذين قست قلوبهم بالكراهية نادراً ما يشكون في أنفسهم أو يفكرون في مسؤوليتهم عما يحدث. بل بالعكس بدلاً من ذلك يلقون بمشاكلهم على الآخرين، ويوجهون اللوم، ويحولون الآخرين إلى رموز لكل ما هو خاطئ في عالمهم. وذلك الدافع إنما يولد من الضعف وانعدام الأمان الداخلي.
أعتقد أن الصراع الأبرز في زمننا هذا هو السعي نحو صحوة أخلاقية في عالم فقد إحساسه. أن نبقى متيقظين، ونحافظ على قدرتنا على الإحساس والتفكير والتعاطف، في عالم يفضل لو أننا لا نفعل ذلك.
لذا، أحثكم على أن تظلوا ثابتين في نضالكم من أجل ضميرنا المشترك، حتى عندما يحذركم أصحاب النوايا الحسنة من أن تفاؤلكم سيؤدي إلى خيبة أمل.. أو عندما يستخف المشككون بجهودكم، ويصفونها بالتمثيل أو بأنها مضيعة للوقت.
موقع جلالة الملكة رانيا العبدالله الرسمي
هذا الموقع الإلكتروني لا يدعم متصفحات الإنترنت القديمة. الرجاء تحديث متصفح الإنترنت إلى نسخة أحدث من إنترنت إكسبلورر 9
متصفح الإنترنت الذي تستخدمه قديم. لتحسين مستوى الأمان عند تصفح مواقع الإنترنت و مشاهدتها بالشكل الصحيح و بفعالية افضل قم بتحديث متصفح الإنترنت الخاص بك
