ترجمة لكلمة الملكة رانيا في منتدى القناة التركية الرسمية الذي عقد في اسطنبول

04 تشرين الأول 2018

شكراً (غيدا) على هذه المقدمة اللطيفة.

يسعدني أن أكون في تركيا مرة أخرى. الأردن وتركيا مرتبطتان؛ ليس بالصداقة فقط، ولكن بتاريخ طويل من التعاون والمعتقدات المشتركة أيضاً.

مثل الأردن، تأثرت تركيا بموجات الاضطراب في منطقتنا. ومثل الأردن، بقيت تركيا ثابتة في التزامها تجاه الملايين من اللاجئين الذين رحبت بهم داخل حدودها.

لقرون، بقيت هذه البقعة مركزا فكريا، حيث تتلاقى طرق التجارة والشعوب والأفكار. اليوم، أنا سعيدة للمساهمة في ذلك النهج، وبالمشاركة في هذا المنتدى.  

قد تختلف وجهات نظرنا العالمية. لكن، في عمق إنسانيتنا نتشارك التطلعات الشاملة ذاتها للعالم: السلام، العدالة، الأمن للجميع.

تحقيق هذه القيم هو صراع مستمر وصعب.. لا يمكن لأي دولة ان تتحمله وحدها. لكن يجب أن يبقى مهمتنا المشتركة، لأننا عندما نتعثر، عادة يكون الأبرياء هم أول من يدفعون الثمن. 

مثل "ايلان الكردي". مرت ثلاث سنوات منذ ايجاد جثته على شاطىء بجانب بودروم. فقد هو ووالدته وأخاه حياتهم أثناء محاولتهم الهروب من وحشية النزاع السوري.

وسرعان ما أصبح موت "ايلان" رمزاً لمعاناة أكثر من 5 ونصف مليون لاجئ سوري.

لفترة وجيزة، أصبحت هذه الصورة للخسارة العبثية نقطة تحول لأزمة اللجوء العالمية. اجبرت العالم على مواجهة التكلفة الحقيقية للحرب.. والنتائج المرعبة للتقاعس العالمي.

لكن الارادة السياسية والانسانية التي ولدتها كانت قصيرة الأجل. فكما ظهر الاهتمام بأزمة اللاجئين فجأة، ما لبث أن تراجع فجأة.. كما لو كان ضحية للمد والجزر في التعاطف الانساني.

منذ ذلك الوقت، أكثر من 10 الاف شخص غرقوا خلال محاولاتهم القيام بمثل تلك الرحلة المليئة بالمخاطر عبر البحر الابيض المتوسط. وبدلا من اعتبار ذلك كدعوة للعمل، تم تجاهل موتهم ومعاملته كضوضاء خلفية.

في العقود التي مضت، حذر الخبراء من أن الدورة الاخبارية على مدار 24 ساعة قد تلغي تعاطفنا تجاه الصور المرعبة. اليوم، مثل هذه المخاوف تبدو غريبة تقريباً. فلا مفر الآن من لقطات البؤس البشري، فهي تبث عبر شاشاتنا باستمرار وتجتاح صفحات التواصل الاجتماعي.   

كبرنا ونحن معتادون على أخبار موت النازحين في البحار.. لصور أطفال مضرجين بالدماء خلال سحبهم من تحت الأنقاض.. منازل وأحياء بأكملها أصبحت حطام.

كل يوم، تنهال علينا الأدلة على المعاناة. حتى الصور التي كانت مؤلمة تتوقف تدريجياً عن كونها مؤلمة. وتختلط الأسماء والوجوه لتصبح غير واضحة، وفسيفساء البؤس تتشوه وتؤول إلى حالة ركود.

من أحد الأوجه الأساسية لطبيعة الانسان هو الاندفاع لمساعدة من هم بحاجة للعون.

في الحالات الفردية، رد فعلنا  لمد يد المساعدة فعال جداً. لكن، في وجه الفظائع الجماعية، في كثير من الأحيان، نفشل في التحرك بشكل حاسم.  

تنكسر قلوبنا عندما نسمع قصة أم أُجبرت على دفن طفلها.. أو عائلة استُهدفت لمعتقداتها الدينية.. أو قرية تُحرق بأكملها عن قصد. مع ذلك، يبقى الكثيرون في العالم غير مبالين بالابادة الجماعية في ميانمار، حيث أكثر من 25 ألف مسلم من الروهينغا قتلوا بوحشية، وأكثر من 900 ألف تم تهجيرهم من بيوتهم.

يصف علماء النفس هذه الظاهرة بالتخدير النفسي- نحن ندرك معاناة شخص على أنها مأساة ولكن مع تراكم أعداد المتأثرين، تبدأ تلك المأساة بخسارة حجم تأثيرها علينا. 

هذا تدبير وقائي إلى حد ما.. طريقة لعزل أنفسنا عن وجع الآخرين.

لكن قد يكون التحدي الأكبر للقيام بعمل ما هو الشعور بالعجز. يستسلم الكثيرون لفكرة عجزهم عن إحداث أي فرق. يخبرون أنفسهم أن أي جهد لتحسين عالمنا سيكون بلا جدوى.

لكن التاريخ يخبرنا قصة مختلفة تماماً وتحمل أملاً أكبر.

قد تقودنا عناوين الأخبار إلى الاقتناع بأن العالم يصبح أقل اماناً تدريجياً– لكن ما يحدث في الواقع يعكس غير ذلك: حققنا بالفعل تقدماً مذهلاً في تحويل العالم إلى بيت أكثر اماناً وأكثر شمولية.

قبل الثورة الصناعية، تسببت الحرب في حوالي 15% من حالات الوفاة حول العالم. بحلول التسعينات، انخفضت تلك النسبة الى 5%.. واليوم تقف عند 1%.

أمراض القلب اليوم هي المسبب الرئيسي للوفيات في العالم – بينما العنف ليس حتى من بين العشرة أسباب الأولى.

وفي الوقت ذاته، نوعية الحياة في تحسن. منذ عام 1990، نجا حوالي 1,1 مليار شخص من الفقر المدقع. واليوم أصبح لدى أشخاص أكثر امكانية الحصول على ماء نظيف وكهرباء ورعاية طبية. كما تحسن واقعنا التعليمي وحققنا معدلات عالمية لم يسبق لها مثيل في القراءة والكتابة بنسبة تصل إلى أكثر من 85%. 

رفضنا قبول الوضع الراهن، ولذا نجحنا في تغييره. مرات متكررة، أكدنا أن التقدم ممكن. حققت البشرية خطوات استثنائية، والقوة الدافعة في صفنا.

لذا، لماذا التوقف هنا؟

في النهاية، هنالك العديد من التحديات التي يجب علينا تخطيها: 1 من بين كل 5 أطفال حول العالم هم خارج المدرسة، منهم أكثر من 15 مليون طفل في الشرق الأوسط وحده. العام الماضي، 10 الاف شاب حول العالم قتلوا أو أصيبوا في نزاعات مسلحة. وكل يوم، ينزح 44 ألف شخص من منازلهم.

قد تبدو المهمة الملقاة علينا مخيفة – الى ان نتذكر أننا قادرون على تحقيق أمور مذهلة. وقد حققنا تقدما أكبر من أن نستسلم الآن.

اسألوا الصحفيين في مخيمات اللجوء.. أو المستجيبين الأوائل للكوارث الطبيعية.. أو عمال الإغاثة الذين يقدمون المساعدة للالاف من أجل الوقوف على أقدامهم مرة أخرى. سيخبروكم أن صور اليأس هي جزء من رواية كوكبنا، لكنها لا تحكي القصة كاملة.

العزيمة. القوة. المشاركة. الفرح.

حتى في أظلم الأماكن، أفضل ما لدى الانسانية يستمر في الظهور. وفي وسط الوجع، هنالك الكثير لنعتز به في الحياة.

الآن ليس وقت الانسحاب. فبدلاً من الاستسلام لكل ما فقدناه، علينا أن نناضل من أجل حماية الأبرياء المتبقين. نحد على الموتى، ومن ثم علينا مضاعفة جهودنا من أجل الأحياء.

مارتن لوثر كنغ قال "علينا أن نقبل خيبة الأمل المحدودة، ولكن علينا أن لا نفقد الأمل غير المحدود مطلقاً".

التحدي أمامنا اليوم – وكل يوم – هو التصدي لأصعب الوقائع في عالمنا دون خسارة قيمنا.. وأن نبقى ثابتين في رفضنا لما هو غير مقبول.

شكرا