ترجمة كلمة الملكة رانيا في منتدى باريس للسلام

11 تشرين الثاني 2022

صباح الخير.

إنه شرف لي للانضمام إليكم في منتدى باريس للسلام.

أعتقد أنه حتى ولو كانت هذه المرة الأولى لكم في باريس، فلن تواجهكم أي صعوبة في الوصول إلى هنا هذا الصباح.

لأن التكنولوجيا الحديثة التي نحملها في جيوبنا جعلت من المستحيل أن يضل أحد الطريق.

يمكن أن نكون في أي مدينة في أي بلد بالعالم ونعلم تماماً إلى أين نتوجه.

لكننا نلتقي اليوم لأنه يبدو أحياناً وكأن عالمنا نفسه قد ضل طريقه.

أينما التفتنا، نواجه أزمات معقدة تتطلب عملاً مشتركاً. 

مع ذلك، في كثير من الأحيان، نفشل في مواجهة المخاطر المشتركة بروح القضية المشتركة.

ربما لا ينبغي علينا أن نستغرب.

عندما جعل كوفيد من الخطر استنشاق نفس الهواء، كان من الصعب فعلياً أن نقف معاً.

أحدثت الحرب في أوكرانيا تصدعات جيوسياسية في العالم.

عدم المساواة تزيد من خيبة الأمل، وتُمكن الأصوات المتطرفة.

 قوى الغضب والتضليل تُزاحم التعاطف والمنطق.

وفي كثير من الأحيان لم تعد "الحقائق" بديهية... أو مرتبطة بالأدلة على الإطلاق.

نلاحظ تآكلاً مُقلقاً في الثقة. الثقة في الحكومة، الثقة بالإعلام، الثقة ببعضنا البعض.

لذلك فإن عنوان تَجمُعنا صحيح: نحن نواجه التقاءً للأزمات.

لكنني أود أن أطلب من الجميع أن نهدف لأكثر من مجرد الخروج من العاصفة.

عالمنا غير متزن. مجرد محاولة الحفاظ على ثبات الأمور ليس كافياً. 

يجب أن نتعامل مع هذه اللحظة كالتغيير الجذري الذي تمثله. حان الوقت لنقلة نوعية. 

وذلك سيتطلب أربع عمليات تصويب حاسمة:

تجديد ثقتنا بالحقيقة...

الاعتراف بأننا جميعاً متساوون في القيمة...

حماية المستقبل...

والإيمان بقدرتنا على إعادة بناء العالم كما نتمنى أن يكون. وكما نعلم أنه يمكن أن يكون.

دعونا نبدأ بالحقيقة.

علينا قولها كما هي... وأن نعمل بما نقول.

الصدق هو أساس الثقة، لكن الكلمات ليست كافية. فالتشاؤم ينمو في الفجوة بين الأقوال والأفعال.

لنأخذ على سبيل المثال، أزمة المناخ... والفجوة بين الوعود والسياسات.

فقد أثبتنا أننا نستطيع أن نضع أهدافاً طموحة، لكن ما الفائدة إن لم نكن ننفذها؟

قبل سبع سنوات، هنا في باريس، تعهد قادة العالم بالعمل معاً للحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري وتجنب ارتفاع درجة حرارة كوكبنا.

ومع ذلك، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة الشهر الماضي أننا "مقصرون بطريقة يُرثى لها" في تنفيذ تلك التعهدات. وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، حذر الرئيس ماكرون من أن "الطارىء المناخي هنا". كما أن التقرير الأخير للأمم المتحدة حول المناخ يُقدر بأن درجات الحرارة سترتفع درجة كاملة فوق الحد البيئي الآمن... وأنه ليس أمامنا "مسار موثوق" لتحقيق الأهداف المعلنة.

ما هو عُذرنا للمزيد من التأخير؟

أهي الأنانية؟ الإنكار؟ توقع أنه إذا انتظرنا، فإن غيرنا سيصلح الأمر لنا؟

الكوكب يحترق ويذوب ويغرق أمام أعيننا.

فات الوقت على قوائم الأمنيات. نحتاج إلى قوائم عمل ملزمة... لإنقاذ مصداقيتنا وكوكبنا.

مع كل هذا على المحك، استذكر مقولة لفيكتور هوغو: "في المخاطر الكبيرة جمال، أنها تُبرز أخوة الغرباء".

مما يقودني للجزء الثاني من النقلة النوعية: علينا احترام إنسانيتنا المشتركة.

نعيش جميعاً في العالم ذاته. الاعتماد على الذات هو وهم. لا يُمكن لأحد منا أن يزدهر ما لم نزدهر جميعاً.

ومع ذلك، من الممكن أن تدفعنا الأوقات الصعبة للاهتمام بمن يخصُنا فقط.

للقول عن الآخرين "إن كانوا مختلفين عنا، فإننا لا نحبهم".

لكن إلى أن نتقبل حتمية ترابطنا، سنواصل تحمل أسوأ التبعات.

لننظر على سبيل المثال إلى أزمة اللجوء العالمي، التي وصلت لنسب قياسية. أكثر من 100 مليون شخص نزحوا حول العالم - مرة ونصف عدد سكان فرنسا.

نعلم جميعاً أنه من الصعب تحقيق التوازن بين الاحتياجات المحلية والنداءات العالمية للمساعدة. لكن يمتلك المجتمع الدولي قدرة تفوق ما يدعيه أحياناً.

لننظر إلى استجابة العالم لأكثر من 7,6 مليون لاجئ الذين هربوا من أوكرانيا منذ شباط. كغيري، تأثرتُ بالصور من أوروبا وغيرها، حيث رحبت الدول المستضيفة بالعائلات المرهقة والمرعوبة في مَواطنهم الجديدة.

لكن كم اختلفت الاستجابة تجاه اللاجئين من أماكن مثل سوريا أو ميانمار أو جنوب السودان. هؤلاء الأشخاص طُردوا من منازلهم أيضاً. وكانوا خائفين على حياتهم أيضاً. ما الذي يُفسر التباين في التعاطف؟ هل لون البشرة هو الأهم؟

غالباً ما يكون الحاجز هو التعصب والتحيز، وليس الميزانيات المالية. 

مع مثل هذه البوصلة الأخلاقية المختلة، لا عجب في أن عالمنا يبدو وكأنه ضل طريقه. وطالما أن استجابتنا للتحديات تكون برفع الجدران بدلاً من زيادة الإرادة، سيُحكم علينا بالصراع والمعاناة بلا نهاية.

لذلك يجب أن تشتمل نقلتنا النوعية على الادراك أننا جميعاً لنا نفس القيمة...

لكن ليس كافياً أن ندرك إنسانية من يعيشون في الأماكن البعيدة، علينا أن نُقدر بشكل متساوٍ هؤلاء الذين سيعيشون في زمن مختلف تماماً.

وذلك يقودني للجزء الثالث من النقلة النوعية: علينا العمل في خدمة الأجيال القادمة.

لأن ما نفعله اليوم يتعلق بالغد أيضاً. ستؤثر خياراتنا على أشخاص لن نلتقيهم أبداً، لكن لهم نفس القدر من الأهمية مثلنا تماماً.

نرى لمحة من وجوههم في أطفالنا وأحفادنا.

العام الماضي، في استقصاء عالمي ضم 10 الاف شاب وشابة، اعتبر ما يزيد عن نصفهم أن أكثر الأشياء التي يقدرونها ستُدمر. وقال 40% منهم أنهم سيترددون في إنجاب أطفال. وثلاث من أصل أربع قالوا إن المستقبل مخيف.

هل ذلك هو ما نريد أن يشعره الشباب؟ أن كل شيء في انحدار؟

نحن الجيل الذي ما زال يتمتع بتأثير اجتماعي واقتصادي وسياسي، ببساطة علينا العمل بصورة أفضل. قوتنا ليست حقاً، بل هي أمانة. ومهمتنا أن نكون على قدر هذه الأمانة في عصرنا. 

ليس المهم الانتخابات المقبلة... أو الربع المالي القادم... أو الجيل القادم من الهواتف الذكية.

ما يهم هو فعل الصواب بحق الجيل القادم من الإنسانية.

لأن الحقيقة هي أنه على رغم كل التشاؤم حول مصير عالمنا، الإنسانية ما زالت في بدايتها.

لفهم ما أعنيه، تأملوا هذه التجربة الفكرية للفيلسوف توبي أورد، حيث يوضح أن معدل العمر التقليدي لفصيلة من الثدييات هو مليون عام. هل يمكنكم تخمين كم عمرنا؟

من وجهة نظر بيئية، لا تزال البشرية في سن المراهقة. لا يزال أمامنا الكثير لنفعله، وهناك الكثير من الاحتمالات أمامنا.

ولم نمتلك من قبل أدوات أو معرفة أو قدرة أكبر لتحقيق المستحيل. 

ولهذا يجب أن يكون الجزء الأخير في النقلة النوعية لدينا هو تجديد الأمل والثقة بأنفسنا.

فعلى الرغم من أوجه القصور، إلا أننا نمتلك كل الأسباب لذلك.

مع كل يوم جديد، نقرأ عن إنجازات واكتشافات تبدو وكأنها معجزات. الصور التي تلتقط فجر الكون، لقاح جديد للملاريا، شريحة تعمل بالليزر يمكنها نقل كامل الإنترنت مرتين في الثانية.

وعلى الرغم من الأزمات المتعددة التي نواجهها، إلا أن البشرية أحرزت تقدماً هائلاً.

في العقود القليلة الماضية، خرج مليار شخص من الفقر المدقع. انخفض معدل وفيات الرضع بأكثر من النصف. يذهب المزيد من الأطفال إلى المدرسة وعدد أقل منهم يذهبون جياعاً. أصبح الآن بإمكان ملياري شخص إضافيين الحصول على مياه شرب آمنة - أكثر من أي وقت مضى في تاريخ البشرية.

حتى فيما يتعلق بالمناخ، فبالرغم من كل العمل المتبقي، علينا ألا نغفل الإنجاز. ففي غضون خمس سنوات فقط، قللنا الاحترار المتوقع بمقدار النصف تقريباً.

لم تكن التكنولوجيا وحدها هي التي مكّنت هذه المكاسب. إنه التعاون والثقة. غريزة المساعدة. والخير الذي يكمن في قلوب البشر.

أفكر بالعائلات حول العالم التي فتحت منازلها للوافدين الجدد المحتاجين.

بمجتمع علمي عالمي يعمل معاً لصنع لقاح ينقذ الأرواح في وقت قياسي.

بأحياء بأكملها تغني معاً من الشُرفات، وتؤلف الموسيقى خلال أسوأ فترات الوباء.

وهذا المؤتمر بحد ذاته، مع حضوركم جميعاً لتبادل وجهات النظر ولنشجع بعضنا البعض.

يبقى محرك الأمل هو قدرتنا على تخيل شيء جديد، شيء مختلف. أن نصدق أن الأمور يمكن أن تكون أفضل مما هي عليه، ومن ثم العمل لجعلها كذلك.

وبنفس القدر من الأهمية، مقاومة التقاعس، ومحاولة تخيل الأشياء في وقت أقرب... حتى نتمكن من إصلاح المشاكل قبل أن تصبح مخاطر... ومنع أزمات الغد قبل أن تبدأ.
 
قبل خمسة وخمسين عاماً، في زمان ومكان مختلفين تماماً، ألقى الدكتور مارتن لوثر كينج خطاباً وصف فيه "كتاب الحياة غير المرئي الذي يسجل يقظتنا أو إهمالنا".

وحذر أنه من الممكن أن يفوت الأوان بالفعل.

وأكد على "الإلحاح الشديد للحظة الراهنة".

أعلم أن كل واحد منكم يشعر بهذا الإلحاح، ويرى أيضاً الاحتمالات التي تنتظرنا. سواء كنا غرباء أو أصدقاء قدامى، فإننا نتقاسم إيماناً مشتركاً، الإيمان بالحقيقة، وفي بعضنا البعض، في مستقبلنا، وبأنفسنا.

ليكن هذا الإيمان ما يُرشدنا ونحن نرسم طريقاً جديراً للمضي قدماً.

دعونا نثبت أننا لسنا ضائعين للغاية... وأننا لم نتأخر كثيراً.

في كل لحظة لدينا فرصة لفعل ما هو صواب.

دعونا نجتمع بلحظتنا معاً.

شكراً.