كلمة الملكة رانيا في منتدى جدة الاقتصادي

25 شباط 2007

جدة, المملكة العربية السعودية

أصحاب السمو والمعالي

السيدات والسادة... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،

سعادتي بلقائكم لا تضاهيها إلا سعادتي بالوقوف مرة أخرى على أرض المملكة العربية السعودية التي تفتح قلبها لاحتضان ما فيه خير الإنسانية، وهذا ما تجسده قيادتها وشعبها في العمل والحكمة.

في صغري، سمعت قصة شائعة تحكي عن رجل عجوز كان يزرع في أرضه. سأله حفيده عما يفعل فأجاب أنه يزرع الأشجار. استغرب الحفيد وقال: تحتاج الأشجار لسنوات طويلة لتنمو، ولا يمكن لك أن تأكل من ثمارها، فرد العجوز قائلاً: " غرسوا فأكلنا، ونغرس فتأكلون".

إن التزامنا بالعمل في سبيل الأجيال القادمة، خيط يربط كل البشرية، لذلك نجد روايات لهذه القصة في مختلف الثقافات. ثمة فخر ومجد في الجهود التي نبذلها من اجل بناء عالم أفضل – حتى وإن استغرقت الاستثمارات عقودا من الزمن لتطرح ثمارها.

أعرف انه من الصعب الآن أن نتخيل كيف ستنظر الأجيال القادمة إلى جيلنا الحالي وإلى مسؤولياتنا في الوقت الحاضر. لكن سواء أدركنا أم لم ندرك... فنحن نزرع اليوم للغد.

للبشرية أن تفخر أننا اليوم، وفي كل أنحاء العالم، نزرع البذور للتقدم التقني بابتكارات... من المطاعيم الجديدة، إلى الثورة الرقمية.

ونحن في الشرق الأوسط ماضون قدماً - من الانتخابات إلى الإصلاح التعليمي إلى المساواة بين الجنسين. وهنا في جدة، قمتم بعمل انجاز جديد ومهم، بانتخاب المرأة في مجلس غرفة التجارة قبل عامين.

اليوم... نجد المرأة السعودية، المعلمة والمربية... الطبيبة والمهندسة... الأكاديمية والمستشارة... الكاتبة والإعلامية.

هذه هي المرأة العربية التي نفتخر بها والتي لا يعرفها الكثيرون في الغرب.

هذه ليست سوى أمثلة بسيطة على عدد لا يحصى من الانجازات.

ورغم ذلك فانا اشعر أن هنالك شيئاً جوهرياً ناقصاً. في يومنا هذا أصبحنا أكثر تكنوقراطية. نتكلم عن الإصلاحات الاقتصادية والسياسية... عن الحلول التقنية... وعن المخاوف الأمنية. وكل هذا ضروري إذا أردنا التقدم. لكن ماذا عن لغة الضمير وحديث القلب... قيم التقبل والمحبة والاحترام والسلام؟ المبادئ الإنسانية الشافية التي ربما تبدو لنا اليوم على أنها شكلية ومعادة… أمور تخطيناها. ولكنها ليست كذلك ... علينا العودة إلى الأساسيات لأن هنالك حاجة ماسة للشفاء العالمي.

إن حقول الغد ليست ممهدة كما يجب، لأن تربة اليوم ملوثة بالشك، والعنف، والخوف.

استطلاع تلو الآخر يصور واقعا مريراً... صورة المسلم في مخيلة الغرب؛ عنف وتطرف ودافع للخوف، وصورة الغرب عند المسلمين عنف وعجرفة ودافع للشك.

ففي الوقت الذي حولت فيه التكنولوجيا العالم إلى قرية ما زلنا نجد أنفسنا متفرقين ومنقسمين... نحكم على الآخر من خلال نمط مسبق وليس من خلال التجربة الشخصية، وبذلك نجرد مَنْ حولنا من إنسانيتهم.

ولكننا نعلم جيداً أنه كلما ازداد التواصل بين الثقافات فان التقبل يزداد والخوف يقل.

ولكن يتعين علينا الإدراك أيضا أن بناء التقبل لا يتم من طرف واحد دون الآخر. فأبناء الشرق والغرب يجب أن يكونوا مستعدين للجلوس معاً والاستماع كل إلى الآخر، ويجب أن يكون كل منا مستعدا لاحترام ما ينجم عن هذا الحوار.

على الأمريكيين، مثلا، أن يواجهوا حقيقة أن المشاعر السلبية لدى العديد من العرب والمسلمين، لا تنبع من عدم فهم سياسات الولايات المتحدة في منطقتنا... بل لأنهم يرون أن الكثير من هذه السياسات غير صحيحة. لن تزول هذه المشكلة بتعديل هنا أو هناك. إذا ما أرادت أن تكسب "عقل وقلب" المنطقة، فيجب على السياسات الأمريكية أن تكون متوازنة... عادلة... وأن تمهد للسلام لا للحرب.

وفي الوقت نفسه لا نستطيع كمسلمين أن نشتكي من الصورة النمطية السلبية التي يحملها الغرب لنا، إلا إذا قمنا بمواجهة العوامل التي تقف وراء هذه التصورات.

نحن على حق في رفضنا ظاهرة الخوف من الإسلام، وتصوير المسلمين على أنهم إرهابيون... لكن علينا مواجهة الحقيقة الرهيبة المتمثلة بأن أغلب الهجمات الإرهابية في السنوات الماضية ارتكبها أفراد يدّعون أنهم يعملون باسم الإسلام.

نحن على حق عندما نستنكر العنف الإسرائيلي ضد المدنيين في فلسطين ولبنان. ونحن على حق عندما ندين ما يحدث في جوانتنامو وأبو غريب. لكن علينا أن نقف في وجه العنف المذهبي والطائفي الذي يتنامى في بعض أوطاننا.

نحن على حق عندما نتساءل عن أهداف الحكومات الغربية حين تُسهل بأفعالها تجنيد المزيد من المتطرفين، لكن مسؤوليتنا الأخلاقية تعتمد على رفضنا لأصوات العنف والتطرف التي تنطلق من بيننا.

نحن على حق عندما نطلب من الغرب أن يفعل المزيد لجسر الفرقة بين الشرق والغرب، ولكن مطالبتنا تكون أكثر تأثيرا وقوة، لو لم نكن منقسمين على أنفسنا. ومن الصعب أن نطلب من الغرب أن يتقبلنا كجيران في القرية العالمية في الوقت الذي نخوض فيه حروباً فيما بيننا، حرب الأخ وأخيه، في العراق – و فلسطين– و لبنان - وأفغانستان.

أنا أم لأربعة أطفال .. حسين، إيمان، سلمى، وهاشم. فكروا في الأطفال الذين تحملونهم في قلوبكم. استرجعوا أسماءهم... هنا في هذه الغرفة نحن آباء وأمهات ومحبون لآلاف من الأبناء والأحفاد وأبناء الإخوان والأخوات.

أي أرض وأي مستقبل نعد لهم؟ هل نستطيع القول أننا نرعى بذور الأمل لهم؟ هل نقوم حقيقة برعاية التقدم والسلام؟

يجب أن نحول كل الاهتمامات والآمال التي نحملها إلى إحساس جماعي بضرورة العمل. إن التأكيد على الإسلام بصورته الحقيقية هو التحدي في هذا العصر، ونحن الذين يتعين علينا مواجهته. من السهل أن ننتظر أن يتقدم الآخر... لكن ذلك الشخص ينتظرنا نحن.

إن قدرنا مرهون بما تفعله أيدينا. وعلينا التحلي بالشجاعة للمضي قدما.

لا أجد مكانا أكثر إلهاما لمثل هذه البداية... من جدّة... بوابة مكة المكرمة، مسقط رأس الإسلام، وعلى التربة التي ترسخت فيها جذور إيماننا.

على مدى القرون، مرّ ملايين الحجاج عبر جدّة، متخطين حواجز اللون، والثقافة، واللغة والتجارب. جاءوا للحج وتكريس القيم الكامنة في قلب الإسلام. الرحمة... التعاطف... التواضع... الإحسان... التسامح... والسلام.
تجمع جدة أفضل ما في تراثنا، إضافة إلى تقديمها صورة للمستقبل الذي نرنو إليه. لأننا في هذه المدينة- كما في هذه الغرفة– نرى ملامح الغد الأفضل، تتسم بالازدهار والتنوع، والفرص، والاتصال بالعالم.

في العصر الذهبي للإسلام، كانت الحضارة العربية منفتحة على حكمة الآخرين. رحب أجدادنا بالأفكار القادمة من أراض غريبة، وضمّوها إلى تجاربهم ودفعوا حدود المعرفة إلى مدى أبعد وأبعد.

دعونا نتلقى العبر من كبار قادة الإنسانية في العصر الحديث – من أفراد تمكنوا بشجاعتهم ورؤيتهم من تغيير مجتمعاتهم والارتقاء بها:

المهاتما غاندي الذي قال: "عليك أن تكون التغيير الذي تود أن تراه في العالم".

مارتين لوثر كينغ الذي قال: "يأتي زمن على الإنسان، عليه أن يأخذ فيه موقفاً. ليس لأنه الأقل خطورة، ولا لأنه سياسي، أو شعبي، لكن... لأن الضمير يملي عليه ذلك.

ودعونا لا ننسى الكلمات العظيمة من ديننا الحنيف:

بسم الله الرحمن الرحيم {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} صدق الله العظيم.

نسأل اليوم أنفسنا ... أين هي هذه الروح في منطقتنا؟

علينا أن نعمل المزيد من أجلنا. لان التغيير يحتاج إلى من يمتلكون الشجاعة الكافية للعمل... من يعرفون أن الاستثمار الجيد يأخذ وقتاً... من يمتلكون البصيرة والدافع.

للمسؤولين الرسميين دور مهم ليلعبوه، لكنهم لن يقدروا على القيام بالمهمة وحدهم... إنهم بحاجة إلى طاقة، وإبداع والتزام أناس مثلكم.

معاً... نستطيع أن نبدأ بزراعة البذور لبستان غني ووفير، وواحة وسط الصحراء... مكان يتمكن فيه كل أطفالنا من الشرق والغرب، أن يجدوا التقبل... والمحبة.. والاحترام... والسلام.

اللحظة ملكنا، وسوف ننجح إذا آمنا بالفكرة القائلة:

" أفضل وقت لزراعة شجرة كان قبل عشرين سنة... ثاني أفضل وقت هو الآن".

أشكركم جزيل الشكر.