كلمة الملكة رانيا في جامعة اليرموك بحضور مرشحي "اهل الهمة"

12 أيار 2009

عطوفة رئيس جامعة اليرموك الأكرم،
الأساتذة الكرام،
الأخوة الطلبة والطالبات،
الحضور الكريم،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

لا يتسنى لنا عادة النظر خارج دائرتنا الشخصية، خارج حدود عالمنا الشخصي. تشغلنا همومنا وطموحاتنا وتفاصيل حياتنا عن الوقوف للنظر والتمعن والتقييم والتقدير.

قبل شهرين تقريباً بدأ الأردن حملة شاركت فيها جميع شرائح مجتمعنا من كل أنحاء المملكة .. حملة وطنية للبحث عن المتميزين بعطائهم للمجتمع.

عندما أطلقنا "أهل الهمة" لم أكن أتوقع حجم ردود الفعل. خمسة وأربعون ألفاً وخمسمائة طلب. ومع حذف الطلبات المكررة وصل عدد المرشحين إلى نحو أربعة آلاف مرشح.

من منبر العلم والعطاء هذا، أنتهز الفرصة لأشكر جميع من رشح غيره. كونوا فخورين بأنكم أشخاص طيبون صالحون وقادرون على رؤية ما يميز الآخرين، ما يميز أهل الهمة.

فأهل الهمة هم خيرة المواطنين، مفخرة الأردن، مفخرة جلالة الملك عبدالله الثاني وأنا ... فهم يجسدون أسمى معاني المواطنة، وأعلى درجات المسؤولية تجاه الوطن ومواطنيه.

يحتاج المرء أحياناً وقفة مع نفسه للتعرف على تحولات شخصيته، لإعادة ترتيب أولوياته، ولمراجعة نفسه ... وفي محطة البحث تلك يجد الكثير من العبر والدروس التي لم يلتفت لها - مع وضوحها - في دوامة الحياة اليومية. وأظن أننا جميعاً وقفنا تلك الوقفة مع أنفسنا، ونقفها بين الحين والآخر.

رحلة البحث عن "أهل الهمة" كانت تلك الوقفة للأردن.

استغرق بلدنا في التفكير والبحث عن أكثر مواطنيه تفانياً له، نظر في أعين شبابه، درس الخطوط في وجوه كهوله، وتعرف على صلابة أكتاف نسائه ورجاله ولمس طيبة قلب مواطنيه.

بحث عن أكثر الأعضاء نفعاً، لا بدورهم التقليدي، بل بعطائهم الاختياري ... ووجد الاردن أن أعضاءه تتمنى لبعضها الخير، وتنظر لبعضها بالتقدير والفخر أكثر مما كان يتصور ... وأجمل ما في تقديرك للتميز في غيرك، أنك تصبح شريكاً له في التميز، نجاحه هو نجاحك، وتقديره هو تقدير لك. فما كان ذلك ليحدث لولا دلالتك عليه.

لذلك مبروك علينا جميعاً أهل الهمة .. مبروك للثلاثين مرشحاً النهائيين والذين ستختارون منهم الفائزين.

عندما أطلقنا حملة "أهل الهمة"، استشهدت بالمقولة التي تدعي أن ''الأبطال لا يصبحون أبطالاً حتى يموتوا''. ومن هذا المنطلق أردنا تكريم المتميزين فيما هم بيننا، بل دعم جهودهم لفعل الخير، كي يزداد عطاؤهم بما فيه منفعتهم ومنفعة بلدنا.

في الثاني والعشرين من نيسان، توفي أحد المرشحين المتميزين. لاقى حتفه بينما كان خاشعاً يصلي.... ونعم الخاتمة!

كان يرى أن الوقت والانتباه والحب والحنان هو أكثر ما يحتاجه الأطفال الذين حرموا نعمة التعرف على آبائهم وعيش طفولتهم معهم. كان يخصص ثلاثة أيام في الأسبوع على مر السنوات العشرة الماضية لقضاء الوقت مع الأطفال سواء في دور الأيتام، أو مؤسسة نهر الأردن، من خلال "دار الأمان".

لم يتطوع عن نقص، فحياته كانت مثالية .. زوجة محبة صالحة، وثلاثة أطفال أنجبوا له أحفاداً محبين ملئوا حياته وقلبه بالفرح والحب. لكن قلب "عمو محمد"، كما كان يسميه الأطفال، كان أوسع من باقي القلوب ... فجعل من قلبه ينبوع حنان يرتوي منه كل طفل لم يعرف معنى الأبوة.

أحد العاملين في مركز كان يتطوع فيه سأله ذات مرة عن سبب تفانيه في زيارة الأطفال وقضاء الوقت معهم. فقال:

"بهذا العمر، شو الواحد بياخد معو... خبرة؟ فلوس؟ علاقات؟ ما حد بياخد معو شي أخده من الدنيا؛ بس بياخد معو اللي أعطاه للدنيا".

زوجته وابنته معنا اليوم ... فلتتقبلا منا أحر التعازي ... ولتعلما بأننا كلنا فخر به وبأمثاله.

في هذا التجمع اليوم، لنا الفخر أيضاً بأن نكون في حضرة الثلاثين مرشحاً النهائيين الذين سيصوت لهم الأردن لاختيار أهل الهمة العشرة.

منكم من جعل من حبه وشغفه بمهنته وقدرته وتفانيه في تعليمها وسيلة لتمكين مجتمعه المحلي، فسلحهم بمهنة تؤمن لهم مصدر دخل ثابت.

منكم من جعل من تجربته الشخصية مع أحد المقربين دافعاً- بل ربما هاجساً- لتوفير حياة أفضل لذوي الاحتياجات الخاصة. فغدوا أكثر اعتزازاً بالنفس، وأكثر قدرة على الانطلاق والانخراط في مجتمعهم.

أما مرشحة أخرى فلم يكن دافعها تجربة شخصية بل مسؤولية جعلتها شخصية ... تكبدت عناء قطع مسافات بعيدة - الى بواد قفراء- بصبورة وطبشورة ... لمحو الأمية، للتثقيف، للتعليم، لنشر الوعي عاماً بعد عام لأكثر من عشرة أعوام. علمتهم الهاء، والميم، والتاء المربوطة، فعبئوا لتكريمها طلبات أهل الهمة.

همتكم وحسكم بالمسؤولية تجاه الغير- وإن لم تفوزوا بالجائزة- ستبقى معيارنا لما يمكن أن ننجزه كأفراد .... يعطيكم ألف عافية كثر الله من أمثالكم .. انتوا رفعة ومفخرة لنا جميعاً.

أود أن أشكر إدارة هذا الصرح التعليمي العريق على إتاحة الفرصة لي للتحدث أمام عدد من طلابه، فأنتم المستقبل وأثمن استثمارات بلدنا، وأتمنى أن تعوا حجم تلك المسؤولية وأن تدركوا قيمة السنوات الجامعية قبل أن تنتهي. وقتكم اليوم ملككم، فاستغلوه في تنمية شخصياتكم ومهاراتكم غير العلمية.

لم تعد الشهادة فقط مفتاحكم للنجاح، ولم يعد سوق العمل متعطـشاً لكل من سعى إليه، سوق العمل اليوم يبحث من بين المتقدمين عن المميز. من تميز بتحصيله العلمي، من صقل شخصيته ومواهبه. ليس من أتقن لغات العصر من كمبيوتر وتكنولوجيا فحسب بل من أتقن فن التواصل والدبلوماسية في الحوار والتفكير. لا من يتقدم للعمل بل المقدام عليه والمضيف له.

تزداد التوقعات من خريجي اليوم مع ارتفاع المعايير العالمية للكفاءات، وهي معايير لا تقتصر على التحصيل العلمي بل على بلورة الشخصية ومدى الإحساس بالمسؤولية تجاه النفس والعمل والمجتمع ككل.

المستقبل أنتم صانعوه فلا تضيعوا منكم الوقت والفرص. صحيح، قد تجري الرياح بما لا تشتهي السفن أحياناً وتواجهون بعض الصعاب، لكن ربان السفينة المميز لا يكتسب سمعته من الإبحار في مياه راكدة.

فتحلوا بصفات تجتمع في كل متفوق؛ في كل طبيب وتاجر وقيادي ومحاسب ورجل أعمال وفنان وزوجة وأب متفوق .... تحلوا بالحس العالي بالمسؤولية.

وفي المرة القادمة التي يقف فيها الأردن مع نفسه، لمراجعتها، وللتعرف على التغييرات التي طرأت على شخصيته ولم يلحظها في وتيرة الحياة السريعة .... سيجد جميع مواطنيه فاعلين، أردنيين بحرصهم على أنفسهم وعلى بعضهم، سيجد جميع مواطنيه أردنيين بعزمهم، أردنيين بمواطنتهم، أردنيين لأنها هوية تجسد أسمى معاني العطاء وأرفع القيم والأخلاق.

بارك الله فيكم وبتعبكم ووقتكم وجهدكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،